تمثل علاقات الجوار الجغرافي جوهر العلاقات الدولية في التاريخ، وخاصة في العالم المعاصر حيث الجغرافيا الفاعل الأساس في تنظيم التوازن بين المصالح. وليس من شك في أن معظم الأزمات، التي تفاقمت واتسعت دائرة أطرافها لتصبح دولية، كانت -في الأصل- إقليمية، وكان الحامل عليها خلافٌ بين دولتين أو ثلاث من دول الجوار! وهذا شأن الحروب الكبرى التي اشتعلت خلال العقد الأول من هذا القرن وخلال القرن الذي قبله. كما أنه ليس من شك في أن استتباب السلم والاستقرار العالمي رهنٌ بحلّ المنازعات بين دولٍ تتقاسم الانتماء الجغرافي، وتقوم بينها أسباب تدفع إلى التعبير عن خلافاتها خارج لغة الحوار السياسي!. لعل الوطن العربي معنيٌّ أكثر من غيره من الأوطان والمجموعات الوطنية بإيلاء مسألة الجوار الجغرافي أهمية مركزية في رسم سياسته الإقليمية والدولية، وفي تفاعله مع العالم الخارجي. وثمة أربعة أسباب -على الأقل- تحمل على الاعتقاد في وجوب رفع درجة اهتمامه بعامل الجوار الجغرافي: أولها أنه يقع -جغرافيًا- عند ملتقى ثلاث قارات، ويمثل -لذلك السبب- مَعْبَرًا بريًا وبحريًا إلى أهم أقاليمها في الحساب الاقتصادي والجيو-ستراتيجي؛ الأمر الذي يرتب عليه مسؤولية بناء علاقات مفتوحة مع الأقاليم المجاورة في آسيا وأوروبا وأفريقيا. وثانيها أنه يتحكم جغرافيًا في أهم الممرات البحرية (البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر، الخليج)، وفي أهم المضائِق والخلجان (مضيق جبل طارق، قناة السويس، خليج العقبة، باب المندب، مضيق هرمز...)؛ وهذا يرتّب عليه نهج سياسات إقليمية ودولية حذرة بسبب ارتباط هذه المداخل الحسّاسة بالمصالح الاستراتيجية الكبرى لدول الجوار، وبالملاحة التجارية الدولية. وثالثها وجود ملفّ ثخين من وقائع الخلاف بينه وبين بعض دول الجوار حول مسائل الحدود، وحصص المياه السطحية المشتركة، وسوى ذلك من المشاكل. ورابعها أن دول الجوار تلك طرف شريك في صراعات إقليمية كبرى، ذات بعد دولي، مثل الصراع العربي- الصهيوني. ليس من شك في أنه عَدَا الدولة التي اختُلِقَتْ اختلاقًا في قلب الوطن العربي، وظلت جسمًا غريبًا فيه، فإن باقي دول الجوار الجغرافي تتمتع بشرعية تاريخية لا غبار عليها. وعلى تعدد تلك الدول التي نحتاج إلى رسم سياسات جديدة معها، تبدو ثلاث منها الأهم من وجهة نظر استراتيجية هي: تركيا، وإيران، وإثيوبيا: بين إيران والعرب مشاكل حدودية عنوانها «الأحواز» العربية، وجزر «طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى». وبين تركيا والعرب مشاكل نظير عنوانها لواء «الإسكندرون». وفوق هذا وذاك، بينهما معًا والوطن العربي ملفات سياسية ساخنة اسمها التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، ودعم المعارضات، والبرنامج النووي، وإرادة الهيمنة في الإقليم. ثم بين إيران والعرب مشاكل مائية عنوانها السيطرة على «شط العرب»، فيما بين تركيا والعرب ملفّ مائي ضخم وخطير للغاية اسمه حقوق كل طرف (العراق وسورية، وتركيا) من مياه نهري دجلة والفرات، وبناء السدود التركية على مجرى النهرين، وملف أضخم هو المشاركة في تدمير سورية والتدخل في شؤونها الداخلية، من خلال رعاية المعارضة الإخوانية، وتقديم الخِدْمات اللوجيستيكية للجماعات المسلحة (من إيواء بعضها، إلى فتح حدودها لعبور بعضها الآخر إلى الداخل السوري...)، كما مناوءة النظام القائم في مصر اليوم، بادعائها أنه انْقَضّ على السلطة «الشرعية»، ونتجَ من «انقلاب» عسكري عليها، فضلاً عن تحالفها مع تنظيمات «الإخوان المسلمين» في كل بلدٍ عربي وُجِدَتْ فيه مجموعات تنظيمية لهم! وأخيرًا، بين أثيوبيا والعرب مشاكل عنوانها: مياه النيل وسدّ «النهضة» المُقام عليه. ومن البيّن أن هذه المشاكل وُوجهت بسياسات ذات نَفَس عدائي من الطرفين، فنجم عنها تسميمٌ عالٍ لعلاقات الجوار، بل كانت سببًا في إشعال حرب ضروس بين العراقوإيران حول «شطّ العرب»، وسببًا في استباحةٍ مستمرة للشمال العراقي من قبل القوات التركية، وسببًا في القتال بين الصومال وإثيوبيا، وسببًا في حالة الاحتقان بين إيران والإمارات العربية المتحدة، وبين تركيا وسورية، وبين إثيوبيا والسودان ومصر. لكن الأخطر من ذلك كله، أنها كانت سببًا في تقديم الذرائع أمام التدخل الأجنبي لإعادة إلقاء القبض على المصير العربي، بل كانت سببًا في انقسامٍ عربي مروّع جرّاء ميْلِ هذا الطرف العربي إلى مناصرة دولة الجوار نكاية في الطرف العربي الآخر، ورغبةً منه في استثمار مشكلته لتصفية حسابٍ سياسي سابق معه! ولعل الوقت قد حان أمام ثقل المشكلات وتزايد احتمالات الانفجار الإقليمي لِطَيِّ صفحة العداء مع دول الجوار الجغرافي، وإعادة بناء السياسة الخارجية الإقليمية بيننا وبين هذه الدول على قاعدة الحوار بدل الحرب والتربص، وعلى قاعدة التعاون بدل الكيد والتخريب. ذلك أنه ما من مشكلة عصيَّة على حلّ يضمن حقوق الجميع إذا ما توافرت إرادة سياسية تميل إلى وعي أهمية تحقيق توازن المصالح على حساب أوهام التسلط وإلغاء الآخر. والحقيقة التي باتت ممتنعة عن التجاهل أن توازن القوى الإقليمي (خصوصًا بين المجموعات الكبرى الثلاث: العربية، والتركية، والإيرانية) لم يعد يسمح لطرف ما بأن يركب رأسه وأوهامه، ليخوض مغامرة إجبار خصمه على التسليم المنفرد بحقوقه. ثم إن الحقيقة الأكثر غنًى -في معرض النظر إلى المستقبل- هي أن الثابت الوحيد الذي لا ينبغي أن يقبل التجاهل، والذي سوف يظل يصنع الحاجة إلى وفاقٍ بنَّاء بين هذه القوى هو: ثابت الجغرافيا، وهي صانعة التاريخ بامتياز؛ فالأجنبي قد يأتي اليوم ديارنا مُسْتَقْدَمًا من هذا أو ذاك، لكنه لا بدَّ راحلٌ في يوم، وبعدها لن يبقى على الأرض إلاّ أهل الدار والجوار: هؤلاء الذين سيكون عليهم أن يصنعوا مصيرهم بأنفسهم. والفارق عظيم بين أن يصنعوه بالحروب التي لا غالِبَ فيها، وبين أن يصنعوه بتعاونٍ لا مغلوبَ فيه! من النافل القول إن رأب الصدوع، وترميم الشروخ، بين العرب وإيران، ثم بينهم والأتراك، بات اليوم أصعب من ذي قبل بكثير؛ منذ احتلال العراق في العام 2003 وتمكُّن إيران من مصيره، واتساع نطاق نفوذها في الإقليم، وتفجير «الشراكة السنية- الشيعية» في العالم الإسلامي، تبعًا لذلك، وحتى اليوم في امتداد هذا الانفجار العظيم الذي أحدثتْه وقائعُ ما يسمّى «الربيع العربي». ولقد يبدو أن توغّل إيرانوتركيا في أحداث ما جرى ويجري، منذ أربعين شهرًا، أوصل العلاقات في الجوار إلى النفق المسدود، ومزَّق أواصر الثقة بين الأمم الثلاث (العربية والتركية والإيرانية)، وبالتالي أبْطَل أيّ إمكانٍ لاستعادتها وتصحيحها وتصويبها لخدمة المصالح المشتركة. ولقد يقال أيضًا إن تقسيم السودان، واندفاعة إثيوبيا وراء مشروع سدّ «النهضة»، المؤذي لمصالح مصر المائية شديدَ الإيذاء، يضع العلاقة بأثيوبيا على كفّ عفريت، إن لم نقُل إنه يهدّد بنَسْفها بالنظر إلى وجود إسرائيل في مكانٍ من مشروع السدّ! ،،، من النافل أن يقال ذلك كلُّه اليوم لِعِظَمِ المشكلات البَيْنِية واستفحالها. غير أن كلمة السرّ في علاج هذه المعضلة (معضلة انهيار علاقات الجوار الإقليمي) هي الإرادة؛ ذلك أن توافرها قمين بتذليل الصعوبات، وتبديد المعوّقات. والإرادةُ هذه تصنعُها الرؤية الاستراتيجية الصحيحة للمصير، وإن كانت تتحكم فيها أحيانًا المصالح الضيقة. إذا كانت العلاقة بتركيا، مثلاً، متأثرة جدًّا بالحسابات العقائدية لِ «حزب العدالة والتنمية» التركي، وانبعاث نزعات عثمانية جديدة (هي التي أدخلت تركيا إلى قلب الأزمة السورية وإلى الاصطفاف وراء «الإخوان المسلمين» في كل مكان)، ومتأثرةً -أيضًا- باستياء مصر وسورية من أدوارها في «الربيع العربي»، فإن العلاقة العربية بإيران تمتعت بموقفٍ سعودي منفتح وحريص على تصحيحها وصولاً إلى التفاهم الإقليمي في القضايا الخلافية، وآخرُ تعبيراته دعوة وزير الخارجية السعودي نظيره الإيراني إلى زيارة الرياض للبحث في مختلف تلك القضايا.