مع حراكنا الاقتصادي الحالي والسعي للرفع من كفاءة الانفاق والرقي بالإنتاجية، تنطلق قضية الاستفادة من الموارد البشرية الخبيرة، فكيف نستفيد من مواردنا البشرية؟ ما يقال على سبيل النكتة من أن كلمة «متقاعد» تعني «متْ.. قاعد» يبدو أنه ليس بعيداً عن الحقيقة؛ فهناك مَن يحارب الاستفادة من خبرة وقدرة المتقاعدين من المواطنين، ولا أبالغ. انظر حولك فيمن تعرف من المتقاعدين المهنيين المحترفين من أصحاب الخبرة والمعرفة من مهندسين وأطباء وأكاديميين، ممن قضوا عقوداً من أعمارهم يراكمون الخبرة والمعرفة والمهارة. ثم أجب عن السؤال البسيط: كم منهم جالس في بيته؟ وكم منهم يستفاد منه (أو منها) في مجاله؟ نعم، المحظوظ من كان يملك طاقة ورغبة ومالا حتى «يطق طق» من هنا وهناك في أعمال العقار من بناء مستودعات وتأجيرها أو شراء قطع أراض وبناء دبلوكسات عليها ثم بيعها. وليس لي أي اعتراض على هذه الأنشطة فهي بالتأكيد مفيدة للشخص وللمجتمع، لكني أتحدث عن مهندس أو مُعلم أو متخصص في الموارد البشرية أو في الجودة أو القانون، راكم خبرة في مجاله قد تتجاوز الثلاثين عاما ثم تقاعد، فهل يستفيد المجتمع من خبرته المتراكمة؟ بالتأكيد سيطرح السؤال الاستنكاري: هو تقاعد حتى لا يعمل، فقد عمل بما فيه الكفاية! قد يكون ذلك صحيحاً، وقد لا يكون؛ بمعنى أن الشخص يتقاعد لاعتبارات فهناك من يتقاعد ليُسافر لجزر البهاماس وينسانا، وهناك من يتقاعد ليقضي أوقاتاً مع عائلته وأصدقائه فهو لا يريد أن يعمل، وبالمقابل هناك من لا يمانع في العمل إما تطوعياً أو لوقت جزئي أو في مهمة استشارية أو عضوية مجلس إدارة أو لجنة. ثم ان وضعنا نحن –في المملكة- وتحديداً فيما يتعلق بالموارد البشرية الخبيرة ليس اعتيادياً؛ ومع ذلك، فنحن نُطبق فيما يخص التقاعد مفاهيم أندونيسيا والهند وبنجلادش ومصر وتركيا، وهي بلدان كثيرة السكان، أو مفاهيم ألمانيا والنمسا وسويسرا فهي تعج بالخبرات والثراء وثقافة التخطيط للتقاعد. أما نحن فبلد فقير للموارد المؤهلة، ولذا لا يصح التفريط بهذا المورد شديد الندرة عندنا. هذه الخواطر تسرح وتمرح في ذهني كلما صادفت خبراء واستشاريين قادمين للعمل هنا تجاوزت أعمارهم الستين بسنوات. ومن حيث المبدأ، ليس لدي أي اعتراض على ذلك، لكن لم لا تستفيد كذلك من مورد بشري محلي بسبب التقاعد، ما دمنا نجلب استشاريين وافدين تجاوزوا الستين! لعل أحد معوقات الاستفادة من الخبراء المتقاعدين أن صناديق التقاعد (الحكومي والتأمينات والعسكري) تقف بالمرصاد لمن يعمل من المتقاعدين، فمؤسسة التأمينات الاجتماعية لو اكتشفت أن أحد مشتركيها تقاعد ثم التحق بعمل لدى جهة لقاء راتب فستستنفر وستخضعه وصاحب العمل لمساءلة قد تطول، ومهما يكن من أمر فسيطلب من المتقاعد الذي قرر أن يعمل، سيطلب منه أن يُعيد رواتب وأن يدفع غراماتٍ! لعل تشدد صندوقي التقاعد والتأمينات أحد أهم عوامل ردع وزجر المتقاعدين. في حين أن دورهما يجب أن يكون على النقيض من ذلك، فصندوقا التقاعد الحكومي والتأمينات يتوقع أن يبذلا جهداً إبداعياً ليستفيد المجتمع من خبرات وقدرات وحكمة المتقاعدين المخضرمين، سواء أكان تقاعداً مبكراً أم عند بلوغ السن القانونية. وكأني ألحظ أحداً في تلك الصناديق يعدد ما قاموا به من خدمات للمتقاعدين، ولن أجادل فالحديث هنا محدد في مدى الاستفادة وظيفياً وانتاجياً من المتقاعدين في المجتمع ككل، بحيث نستفيد ممن لديه الرغبة والمقدرة، وهذا أمر سنجده ينطبق على قطاعات في أمس الحاجة لمواطنين قادرين في التعليم والصحة والهندسة والخدمات على تنوعها. أدرك أن هناك من أمضى عمره ولم يكتسب الكثير، لكنه بالتأكيد مرّ بتجربة حياتية يمكنه من خلالها إفادة المجتمع بطريقة أو بأخرى. ولعل الأمر بحاجة إلى مبادرات تُجمع في برنامج للاستفادة من المتقاعدين، والمبادرات هذه قد تتطلب تنسيقاً من جوانب عدة، إذ إن الأمر لا يرتبط فقط بصناديق التقاعد بل كذلك بالجهات التي بإمكانها الاستفادة من المتقاعدين سواء أكانت وزارة العمل أم صندوق تنمية الموارد البشرية والمؤسسة العامة للتدريب المهني والفني، أو العديد من الوزارات كالتعليم والصحة على سبيل المثال لا الحصر، كما أنه لا يمكن استبعاد القطاع الخاص ممثلاً في الغرف التجارية عن الأمر. ولعل البداية، هي أن تتعامل صناديق التقاعد مع المتقاعدين باعتبارهم موردا إثرائيا للمجتمع ككل بقطاعاته الحكومية والأهلية، ويجدر بصناديق التقاعد أن تتحول في فكرها، من مجرد جباية اشتراكات ودفع معاشات إلى النظر في الثروة الكبيرة التي لديها من رأس المال البشري المواطن، بأن تطلق برنامجاً وطنياً متكامل الأركان لاستثمار هذه الثروة استثماراً يعود على الوطن والمجتمع والمتقاعد والصناديق بخير عميم بإذن الله. فإن وافقوا على هذا المقترح فسآتي لهم بمتقاعدين ليصمموا البرنامج ومبادراته.