من فضل الله على عباده أنْ نثر على الأرض الأرزاق، وجعلها مباحاً لعباده، ثم أذنَ لهم بالإنفاق من هذه الأرزاق، ثم أثابهم على تبرُّعهم مِن مالٍ ليس لهم فيه شيء، فهو مالُ الله الذي آتاهم إيَّاه، وزاد تفضُّلا وتكرُّماً عليهم أنْ أذن لمن شاء منهم، أنْ يجعل من هذا المال أَجْراً دائما ومثوبةً جارية، ولعظيم أجر الوقف، أكثرَ الصحابةُ الكرام من الأوقاف قال جابر بن عبدالله: (ما أعلم أحداً كان له مالٌ، من المهاجرين والأنصار، إلا حَبَسَ مالاً مِن ماله صدقةً مؤبَّدة، لا تُشترى أبداً، ولا توهب ولا تورث) فهي الصدقة الجاريةُ التي قال فيها رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه: (إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وبيان ذلك أن الإنسان حين كان حيّاً كان مأذوناً له في أنْ ينتفع بمال الله الذي أكرمه به، أما بعد وفاته فقد انقطعتْ صلتُه بالدنيا، فلم يؤْذَن له في أخْذِ شيءٍ منه معه إلى القبر، كما هو حال المرء حين يُدعَى إلى ضيافةٍ، فإنه مأذونٌ له أن ينتفع بما بين يديه من الضيافة، ولم يؤذَن له بأخْذ شيءٍ منها معه، فلو أنَّ أحدَ الناس دُعِيَ إلى غداء، فليس حين يصل إلى موضع الدعوة، ويوضَع الطعامُ بين يديه، أنْ يَمْتَنِع عن الأكل، بدعْوَى أنه شبعانٌ، ثم يأخذ الطعام معه إلى أولاده في بيته، ولا إلى بيت غيره، فهذا لم يؤذَن له بذلك، وربَّما عدَّ الناسُ هذا التَّصرُّفُ منه لؤماً، إلا إنْ أَذنَ له صاحب الطعام في أَخْذه، أما ربُّنا جلَّ جلالُه، فيعاملنا معاملةً مختلفة عن تعاملات البشر، فقد أَذنَ لأحدنا أنْ يُوصِي بصَرْف ثلث مالِه إنْ شاء، ليكون وَقْفاً يَصِلُه ثوابه وهو ميِّتٌ، ونَدَبَ الناس إلى ذلك، ووسَّع في مصارف الوقف ويَسَّرَ سُبُلَه. فللإنسان أنْ يوقف على أهله وذُرِّيَّته، وله أن يوقف على أيِّ جهةٍ من جهات البرِّ، فالوقف من خصائص هذه الأمَّة، فجعَلَتْه الشريعةُ نظاما مكتمل الأركان والشروط والضوابط، فهو قائم على ثلاثة أركان، أوَّلُها الواقفُ أي الذي حَبَس الذَّات أو المنفعة، وثانيها الموقوف عليه وهو الذي تُصْرَف له منفعة الوقف، ويُلاحَظ هنا أن الناس اليوم بحاجة إلى التوعية، لئلا يَغفلوا عن بعض المصارف الهامَّة، فيتسارع الناس إلى الوقف على دور الأيتام، فإذا طَلب أحدٌ صدقةً للأيتام بادر الجميع إلى التبرع. وكذلك الأمر بشأن التبرع لدور تحفيظ القرآن، فالناس تتسابق إلى هذين المصرفين، وهما مصرفان هامَّان، غير أن المصارف الأخرى كذلك بحاجةٍ إلى دعم، ومن أهمها المؤسسات التعليمية، مِن مدارس ومعاهد ومراكز الأبحاث العلمية، فلقد كان المتقدمون يُوقفون على هذا المصرف، وهو من أهم الأسباب المعينة على نهضة الأمم، لأنه ليس مالاً ينتهي بالتَّبرُّع به، وإنما هو عقدٌ أبديٌّ، يستمرُّ العمل به وتستمرُّ تنميته حسب ما تقتضيه المصلحة، فخيره مستمرٌّ للموقِف في الآخره، وللموقوف عليهم في الدنيا، وثالث الأركان هو الصيغة، التي بها تُضبط كيفية التصرف في الوقف، ورابعها الموقوف، فللإنسان أن يوقفَ أرضاً أو بنايةً أو بستاناً، وله أن يوقف سيارةً أو آلةً أو كتاباً أو مكتبة، بل له أن يوقف فكرةً أو اسماً تجاريا، والجهة التي ترعَى مصالح الوقف في شؤونه الإدارية والمالية يقال لها النَّظارة، سُمِّيَتْ بذلك لأن معناها يرجع إلى التبصُّر والتفكُّر، فالنَّاظر على الوقف هو المسؤول عن تنميته وتوزيع الحقوق لمستحقيها، فبقاء الوقف بلا قَيِّمٍ، أي ناظرٍ تضييعٌ له، فكان تعيين الناظر واجباً، والأكمل تعيين مجلس نظارة، فهو أكثر قدرةً على تنمية الوقف والنهوض به. وقد بسط الفقهاء الكلام على وظيفة النَّظَارة، فذكروا أنه يشترَطُ في الناظر أن يكون قادراً على تصريف شؤون الوقف، وألا يكون متَّصفاً بصفاتٍ سيِّئة، تدفعه للتفريط في الوقف، لئلا يُضيِّع الوقف، كمَن عُرف بالفسق وارتكاب المناكر، فالعدالةُ والمروءةُ تدفعان صاحبها للتصرُّف وفْقَ ما تقتضيه مصلحةُ الوقف، فمن عُرِفَ بحُسْن تصرُّفه جاز أن يكون ناظراً، رجلا كان أو امرأة، ولو كان عجوزاً أو كفيفاً، فالعبرةُ بالقُدرة على حفظ الوقف وتنميته.