يتعامل بعض نظار الوقف مع الأموال الموقوفة وكأنها حق مكتسب لهم ولذريتهم، فهم يتصرفون بالأوقاف الخيرية وكأنها ملك خاص لهم، وبخاصة الأوقاف الأهلية. وقد نجم عن ذلك سوء في صرف الأوقاف في مصارفها الشرعية واستثمارها وفق الصورة المطلوبة لإحياء الوقف وتنميته. وقد أكد ل «الجزيرة» فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة المنورة وإمام وخطيب المسجد النبوي أن 9 من عشرة نظار يتم استبعادهم من نظارة الأوقاف لعدم أهليتهم!! وأمام تزايد المشكلات من نظار الوقف لدى المحاكم، وأهمية وجود نظار مؤهلين من كافة الجوانب للعناية بالأوقاف واستثماراتها لصالح الوقف، والوفاء بشروط الواقفين. التقت «الجزيرة» بعدد من أصحاب الرأي من المختصين الشرعيين والقضاة والمسؤولين وتحدثوا عن نظارة الأوقاف وأهمية إيلائها مزيداًَ من العناية والرعاية أداء للأمانة. دورات للنظار بداية يكشف د. عبدالله بن حمد السكاكر أستاذ الفقه بجامعة القصيم الأسباب المتعددة لإهمال كثير من الأوقاف وعدم القيام بها على الوجه المطلوب ومنها: 1- غنى كثير من الناس عن هذه الأوقاف وانشغالهم بأموالهم الخاصة عنها وهو ما يفسر التفاوت بين جيل ما قبل خمسة عقود وهذا الجيل في الاهتمام بها، فحين كان الناس من النظّار والموقوف عليهم بحاجة ماسة لتلك الأوقاف كانوا يقومون بها ويتابعون القائمين عليها, وهذا الأمر لا يزال في بعض البلاد الإسلامية حيث لا يزال المستوى المعيشي لأهلها متدنياً فتجد الاهتمام بالأوقاف جيداً. وعلاج هذا السبب بأن يوجَه الواقفون بالوقف على الجهات التي لا تزال حاجتها قائمة، وبأن يكون الوقف على جهات قادرة على إدارة أوقافها، ويقلل من الوقف على الأفراد ما أمكن، كما أن من وسائل العلاج أن يرفع أصحاب الفضيلة القضاة عوائد ناظري الأوقاف لتتناسب مع ما يقدمونه من أعمال لرعاية تلك الأوقاف، فلن يترك الناظر أعماله الخاصة لرعاية وقف بعائد غير مجزٍ، لو عمل في ماله الخاص لكانت عوائده أكثر، ومع رفع العوائد لابد من وضع آلية رسمية أو أهلية أو خاصة لمتابعة عمل النظّار ومحاسبتهم على التقصير أو حتى التوصية للقاضي بتغيير الناظر. 2- انقراض الطبقة الأولى والثانية من أبناء الواقف ممن يحملون هم الوقف، وانتقال النظارة لمن بعدهم ممن لا يحملون الهم بالقدر الكافي وليس ثمة عوائد تغريهم وتخوّف الناس من وضع الدولة يدها على الأوقاف، وعلاج هذا الأمر بترويج ثقافة النظر على الجهات لا على الأفراد، فإن الجهات أبقى وأكثر قدرة على إدارة تلك الأوقاف، ومن العلاج رفع عوائد النظّار ليُمكن بعد ذلك فرض الشروط المناسبة، والمتابعة التي تضمن بإذن الله القيام بالوقف على أكمل ما يمكن. كما أن من العلاج للأوقاف القديمة المتعطلة أن تتبنى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أو أي جهة خيرية معالجة هذا الأمر باقتراح بيع المتعطل منها وضم بعضها لبعض مما مصرفه متقارب، وإدارتها عن طريق إدارات خاصة بمجالس مرشحة ومؤتمنة لها نظام دقيق وعليها متابعة مستمرة. أما قصور القائمين على النظر على تلك الأوقاف، فمنه ما يتعلق بالأمانة، ومنه ما يتعلق بالقصور في معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالوقف، ومنه ما يتعلق بالقصور في مهارات إدارة الوقف وإصلاحه، ويمكن معالجة بعض هذه الجوانب باشتراط اجتياز دورات متخصصة تقدمها جهات علمية أو تدريبية مؤهلة ومحترمة تعالج تلك الجوانب لكل من يتقدم لنظارة وقف من الأوقاف، وما لم يجتزها باقتدار فإنه لا يُمكّن من التولي على نظارة الوقف. إن المراهنة على مسئولية الناظر وأمانته في هذا الزمن ينبغي أن تكون محدودة، فإذا كان أحد العلماء القدامى يقول:ما من ناظر وقف إلا وهو لص. فما بالك بهذا الزمن، ولكن الذي ينبغي المراهنة علية تأهيل الناظر فقهياً ومهارياً، وتكريس الأمانة في قلبه، وضمه إلى غيره في النظارة، وعدم إفراده، وجعل النظر عن طريق المجالس، وتشريع الأنظمة التي تنظم النظارة ومتابعة النظّار. أنموذج خاص ويطالب د. علي بن فريح العقلا أستاذ الفقه المساعد بكلية الشريعة بجامعة القصيم على متولي الأوقاف أن يكون بصيراً بأحكامه الشرعية، لديه القدرة الكاملة على إدارة الأموال واستثمارها، وقبل ذلك يجب على الموقف ألا يظلم من يتولى الأوقاف، فلا يولي إلا الكفء القادر، والقوي الأمين، فإن تولى الضعيف ضاع الوقف، وإن تولى الجاهل كذلك، ولذلك يجب أن يبين العلماء والدعاة للناس أحكام الوقف وخطورة التصرف في الأوقاف خارج وصية الوقف، وينبغي لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والجامعات إقامة الدورات المتخصصة في الوقف، وإن اشتُرط في نُظّار الوقف أن يكونوا حاصلين على هذه الدورات فحسن، كما ينبغي إخراج ودراسة أنموذج خاص بالأوقاف متضمن تصرفات ناظر الوقف، وحدود وشروط الوقف. القوي الأمين ويشير الشيخ عبدالهادي بن علي بن عبدالله الخضير القاضي في المحكمة العامة بمكة المكرمة إلى أن للولايات الشرعية ومنها النظارة على الأوقاف ركنان عظيمان هما:القوة والأمانة، والحاكم الشرعي أو الواقف عليه أن يعرف ويختار الأصلح لهذه الولاية، والأمثل فالأمثل، وفي هذا يقول أبو العباس بن تيمية - رحمه الله -: فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة،كما قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26) سورة القصص، وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (54) سورة يوسف، وقال تعالى في صفة جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (19 - 21) سورة التكوير: [السياسة الشرعية ص12]، وتأسيساً على وجود هذين الركنين في ناظر الوقف فإنه يشترط فيه إضافة لما ذكر شروط من أهمها:الكفاية في التصرف والخبرة به والقوة عليه، والمراد بذلك: ((قدرة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه)) [مغني المحتاج للشهبيب 2/393], وقد أولى الفقهاء هذا الشرط عناية فائقة، إذ لا يمكن أن يتحقق المقصد الشرعي الأصيل من الوقف وهو: ((تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة )),على وجه يستفيد منه الأجيال ما لم يكن هناك تصرف صحيح وحسن تدبير للوقف، وإرادة مصلحة الوقف وتقديمها على أية مصلحة خاصة، وذكر الفقهاء لذلك أمثلة منها: أنه لو امتنع الناظر من إعادة الكتب الموقوفة،أو سكن في دار الوقف ولو بأجرة المثل فإنه يعزل، وذلك لأن ذلك مظنة عدم الكفاية في التصرف فيما فيه مصلحة الوقف، والكفاية في التصرف في كل وقف بحسبه,فالكفاية في التصرف في وقف دار صغيرة ليست كالكفاية في التصرف في وقف من مستشفى أو شركة تجارية فيتشدد في الثانية ما لا يشدد في الأولى, ومما سبق بيانه يتبين أن أهم أسباب عدم وجود النظار المؤهلين هو اختلال أحد الركنين الواجب توفرها في الولايات الشرعية،أو عدم كفاية الناظر في القيام بما هو ناظر عليه على الوجه المطلوب. مسؤولية مهمة ويضيف الخضير قائلاً: ومن أهم الوسائل لترسيخ المسؤولية الشرعية،والأمانة الإسلامية لدى نظار الأوقاف. 1 - العناية باختيار الأكفاء من النظار أشد العناية، والاجتهاد التام وبذل الوسع للوصول إلى من يأخذ هذه الولاية بحقها ويقوم بالواجب فيها، وتنمية الوقف ورعاية مصالحه. 2 - تبيين وظيفة الناظر له على وجه التحديد، والعناية بذلك. 3- مقابلة الناظر ومحاسبته, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون من بعده, كانوا يولون الولاة, ويحاسبونهم على ذلك, وتلك ضمانة مهمة للقيام بأعباء الوقف كما ينبغي. 4- إعمال بعض ما تقتضيه السياسة الشرعية في هذا الزمن,وظهرت الحاجة إليه بشكل مُلِح من مثل: أ- أن يكون إقامة الناظر لمدة محدودة, ويمكن التجديد له فيها مرة أخرى. ب- الأخذ بطرق الإدارة الحديثة, كإدارة الشركات فيما يتعلق بالأوقاف الكبيرة, ذات المردود الجيد. ج- تدريب نظار الأوقاف على المهارات الإدارية اللازمة للقيام بالوقف على الوجه اللائق, ولو كان ذلك من مصروفات الوقف. د- الإلزام للنظار بإبراز القوائم المالية للوقف, وفق طرق المحاسبة الحديثة. وظيفة الناظر ويؤكد القاضي عبدالهادي الخضير أن وظيفة الناظر بيّنها الفقهاء أعظم بيان, ومن ذلك ما قاله المرداوي - رحمه الله -: ((وظيفة الناظر: حفظ الوقف والعمارة، والإيجار والزراعة والمخاصمة فيه, وتحصيل ريعه من تأجيره أو زرعه أو ثمره, والاجتهاد في تنميته, وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح، وإعطاء مستحقه ونحو ذلك)) [الأنصاف 7/68]، ومن هنا تبين لنا أن وظيفة الناظر تتضمن شقين رئيسين: الأول: حفظ الوقف وعمارته, والاجتهاد في تنميته. الثاني: صرف الوقف في الجهة الموقوف عليها، وإعطاء المستحق منه. وجملة من الأوقاف وبخاصة الخيري منها, إنما يطرأ الخلل عليها من الشق الأول من وظيفة الناظر, ذلك أن الاجتهاد في حفظ الوقف وعمارته خاصة مع تطور التعاملات المالية, يحتاج إلى دربة وخبرة تجارية، ومعرفة بطرق الصفق في الأسواق، وأما الشق الثاني فهو غالباً ما يكون مسنداً لأمانة الناظر في التوزيع. وغالباً ما يكون أيضاً مستنداً على شروط محدده للواقف يصعب تجاوزها، وعليه فالمأمول من الجهات الحكومية المعنية وعلى رأسها وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ووزارة العدل، تطوير أداءها بما يتناسب ومتطلبات العصر الحاضر، خاصة مع ما يعترض له كثير من الأوقاف وبخاصة في الحرمين الشريفين لإزالة أعيانها، بسبب ما تقوم به الدولة من توسعة مباركة، ويمكن ذلك في أمور منها: 1- التعجيل بمباشرة الهيئة العامة للولاية على أموال القاصرين ومن في حكمهم اختصاصاتها الموكلة لها بالنظام الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/17في 13-3-1427ه والتي منها ما جاء في المادة الثانية منه وفيها ((7- إدارة الأوقاف الأهلية التي يوصى للهيئة بنظارتها أو التي تعين عليها 8- حفظ أقيام الأوقاف الخيرية العامة حتى شراء البدل من قبل مجلس الأوقاف الأعلى، وذلك بعد إذن المحكمة المختصة بهذا الشأن)). 2- إنشاء شركات مساهمة تتولى إدارة أعيان هذه الأوقاف وتكون مسؤولية الادارة فيها منعزلة عن الملك، وذلك بحيث تدير هذه الشركة مجموعة من الأوقاف وفق أساليب المنافسة التجارية الحديثة، وفي حالة وجود خسارة فتتحمله غالباً الشركة مديرة الوقف، لانفصال ذمتها المالية عن ذمة الوقف المالية، وعليه تصبح العلاقات التعاقدية في شركات إدارة الوقف علاقتين عقديتين هما: أ- العلاقة بين المساهمين وهم الذين تتكون بهم هذه الشركة من خلال نظامها هي علاقة المشاركة. ب- العلاقة بين الشركة المديرة للوقف وبين الوقف هي علاقة النظارة بجعل حيث إدارته وحفظه وتنميته. ومستند جواز تطبيق هذه الصيغة الحديثة على إدارة الوقف، ألا مانع شرعي من حلها، وأن فيها مراعاة ومصلحة للوقف ظاهرتين، وأيضاً ما نص عليه الفقهاء - رحمهم الله - في الكفاية في التصرف المبينة سابقاً، وهذه الصيغة موصلة إليها.كما أن الفقهاء قد جوزوا للقاضي أن يعهد ببعض الأمور من وظيفة الناظر لواحد، وبعضها لآخر، وذكروا أنه إذا فوض إلى الناظر بعض الأمور لم يجز له أن يتعده، وعللوا ذلك, بأن ذلك إتباعاً للشرط كالوكيل [منهاج الطالبين للنووي ص170, مغني المحتاج للشربيني (3/554)] وبتطبيق هذه الصيغة الحديثة على إدارة الوقف تتجاوز إشكالية كبيرة وهي: ندرة النظار المؤهلين. لائحة تنظيم الأوقاف يوضح وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الأوقاف خالد العبداللطيف أن الوزارة معنية بمقتضى لائحة تنظيم الأوقاف الخيرية بنوعين من الأوقاف (الأوقاف الخيرية العامة، والأوقاف الخيرية الخاصة)، وماذكرتموه عن الأوقاف الأهلية فإنه مما لا تختص بالنظارة عليه هذه الوزارة، وهي بأيدي نظارها الشرعيين والمرجع والفصل في أمورها يعود إلى المحاكم العامة.