للوهلة الأولى لعنوان مقالي أجد مساحة واسعة مثلكم للتفكر في حقيقة الإنسان في عصرنا الراهن، الذي امتزجت فيه وحوله المفاهيم وتباينت، وربما تعددت في منظورها للإنسان ماهيات الأمور وكيفيتها، فلربما كان الإنسان بسيكلوجيته وفيسيولوجيته عند العلماء والفلاسفة حديثا ذا رؤى وتيارات وفلسفات مختلفة، ولعل من يقرأ كتاب «هذا هو الإنسان» للفيلسوف (فريدريش نيتشه) يضع تصويرا مغايرا حين وصفه كآحاد من جنس الإنسان قائلا: "إني لأفضل أن أكون مهرجا على أن أكون قديسا"، فهذا أنموذج لفيلسوف يكشف في فلسفته بعض حقائق لإنسان العصر العشرين الذي هو في محاولة دائمة لتزييف الحقائق، والتزيّن بالفضيلة المصطنعة، والعابث بفكرة إصلاح البشرية، والحقيقة أن نيتشه وغيره من الفلاسفة حين يقرأ ويسبر عالم الإنسان بكل نواحيه فإنهم يضعونه تحت مجهرين وعالمين: العالم المبتدع، والعالم الواقعي، إذ أن أكذوبة المثل خاصة في عصرنا المادي ظلت إلى حد ما اللعنة الحالمة فوق الواقع. ففي الواقع الذي يصوره الفيلسوف "نيتشه" مثلا يجد الإنسان أنه لا ينبغي عليه أن يحب أعداءه فقط، بل عليه كذلك أن يكون قادرا على كره أصدقائه، وفي المقابل هو دائما في دوامة البحث عن نفسه ومعرفتها فإذا وجدها عرف مفاتيح سعادتها وشقائها، وتعرّف من ناحية أخرى على غلوائها ومطامعها الخفية التي هي سّر التدهور. ويكفي إنسان عصرنا بكل مراحله العمرية والذي تتقاذفه المتناقضات كل يوم وساعة، والذي يساوم على بيع ضميره في الملمات، والذي ربما يشتري أو تشترى منه الذمم، أو الذي يكمم فمه بالملايين نظير مصالح مشتركة، أو التائه في عالم الوجود من غير معرفته بعالمه بعد، هذا الإنسان الذي هو رهينة القلق التي شخصها زكريا إبراهيم، وكتب من أجلها زرادشت في شهير كلماته، وهي العالم المبتدع الذي قرأه نيتشه، إذ أننا في الواقع نعيش في عالم تضييع الإنسان وتضييع قيمته، قتل براءته فهو في مجهر العالم المادي صورة لا حقيقة، وشكل لا مخبر، ودولار متحرك لا عقل مفكر، ومكانة لا علامة فهذه هي المعايير للإنسان الكامل الذي سخر منه ومجده الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي في كتابه «الإنسان الكامل"، الإنسان الذي رخص وشرد وقتل وبيعت كرامته.. إن إنسان العصر الحديث مسكين في عالم مسكين ربما رأى وتعرف وشاهد وسمع وقرأ وتطور وصنع ولكنه لم يتعرف على نفسه ولم يتأمل جوهر ذاته وكينونته التي كشفها القرآن فقال: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم» وقوله «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»، إذ الحقيقة الآن أن العالم يبدو فقيرا بالنسبة لأولئك الذين ضيعوا الإنسان الذي يبحث عنه بدوي أو نيتشه، فالصور التي ترسمها ريشة المادية تجعل ذلك الإنسان مريضا كي يتذوق متعة الجحيم. لذا، لما نظر الفيلسوف "برنارد شو" الاشتراكي بعد ما ألف كتابا أظهر فيه إعجابه الكبير بالموسيقار "فاغنار" وذلك حينما كان يرى الحضارة الغربية وهي في أوج ارتفاعها في العلوم المادية والتكنولوجية وفي المقابل سقوط في الإنسان فلا روح ولا قيم ولا مبادئ ولا أخلاق، جاء "ألكسي كاريل" لما قرأ ما كتبه أستاذه فقال في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): إن معيار الحضارة هو تقدم إنسانية الإنسان وليس تقدم الماديات والجمادات، ولكن بعد ذلك اضطر أن يقدم للعالم اعترافا آخر قال: "لا بد من جمع الأديان واستخلاص روحانية مشتركة توزع على الحضارات المادية فتكون بمثابة جوقة تهذب أخلاق الإنسان وتغذي الروح وترتقي بالمشاعر"، إلا أن ألكسي كاريل استدرك على نفسه وعلى ما كتبه في كتابه الذي جعل الإنسان كائنا يسير للمجهول، ويعب من كأس الحضارة المادية فقال: "لو أن محمدا عليه الصلاة والسلام قام من قبره في القرن العشرين لاستطاع أن يحل مشاكل العالم من هنا نطرح سؤالا كبيرا من هو إنسان القرن العشرين اليوم وإلى أين يتجه؟ وهل ما زالت له مكانته؟ إن أحداث اليوم بتفاصيلها وأيدلوجياتها وصراعاتها تبرهن أن المتاجرة بالرقاب كان صوتها الأعلى، وأن كل المعايير المادية غالية إلا الإنسان فهو الأرخص، والذي ما زال رهينة الظلم والقهر والتسلط والعنجهية والجهل، وما الإنسان في مسلسل القتل والتشريد إلا صاحب البطولة أراده مخرج المسلسل بأجندته البراجماتية أو الداعشية أو الفارسية الحلقة الأضعف والأداة المحركة له، فإلى أين يتجه الإنسان اليوم؟ هل يسير إلى المجهول في نظر ألكسي كاريل، أو هو ما زال في رهينة القلق؟ أو هو الإنسان الذي لعبت به أجندة السياسات فأخرجته عن إنسانيته وجعلته أداة من أدوات البطش والعدوان!، والعالم اليوم في طور حربه على الإرهاب والتطرف ما زال يحاول إعادة الإنسان إلى حالته الطبيعية بمحاولة محاربة التطرف في ذاته والذي هو نتيجة لقوى الشر حوله، فهل سيسمح الإنسان لهذه القوى أن تسيره كالقطيع، أم أن الفكر والاتزان هو من سيتولى صناعة مصيره المجهول؟