عرف المفكر الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م) بمقولته (أنا أفكر إذا أنا موجود)، التي وردت في القسم الرابع من كتابه الوجيز والشهير (مقال في المنهج) الصادر باللغة الفرنسية سنة 1637م، وأعطاها ديكارت صفة الحقيقة، ووجد فيها من الرسوخ والثبات بما لا يمكن زعزعتها، واتخذ منها واثقا ومطمئنا مبدأ للفلسفة التي كان يتحراها، ويبحث عنها في سيره المنهجي من الشك إلى اليقين. وما إن عرفت هذه المقولة، حتى أصبحت واحدة من أكثر المقولات شهرة وتداولا في تاريخ الفكر الإنساني الحديث والمعاصر، وظلت وبقيت واحتفظت بتفوقها على غيرها من المقولات الأخرى، وما زال صداها يتردد ولم ينقطع أو يتوقف، عابرا وممتدا بين الأمكنة والأزمنة، وبين اللغات والألسنة، وبين الأمم والمجتمعات. ومن هذه الجهة، تصلح هذه المقولة أن تكون نموذجا لنمط المقولات الناجحة والمتفوقة، فقد اكتسبت اهتماما ومتابعة، جدلا ونقاشا قل نظيره، وشهدت تطورا واسعا ومتراكما في ساحة الفلاسفة والمفكرين والأدباء الأوروبيين وغير الأوروبيين، تطورا وتراكما ممتدا من القرن الثامن عشر الميلادي إلى قرننا الحالي. ومن مظاهر تفوق هذه المقولة، أنها خرجت وتجاوزت حقلها الفكري والفلسفي الضيق والدقيق، ونزلت من برجها العالي والمتعالي، وهبطت إلى المجال التداولي الشعبي، واتصلت بالأدب الاجتماعي العام، وأصبح هناك من لا يعرف عن ديكارت إلا هذه المقولة، إلى جانب من يعرف هذه المقولة ولا يعرف صاحبها اسما وبلدا وصفة وزمنا، ومن لا يعرف ماهيتها وحكمتها وفلسفتها وحقلها الدلالي. وتعززت المكانة المتفوقة لهذه المقولة، حين أسهمت بفاعلية كبيرة في صياغة وتوليد نسق كبير من المقولات التي حاولت محاكاتها ومجاراتها والتشبه بها، واستعمال بنيتها الأسلوبية، وصيغتها الشرطية، وصورتها البيانية، ومنطوقها اللساني، وبلغات مختلفة من لغات العالم. وظهر في هذا النطاق ما لا يحصى من المقولات، التي ما زالت تظهر وتتولد ولم تتوقف ولن تتوقف، بعض هذه المقولات جاء متصلا ومتناغما مع الحقل الفكري والفلسفي الذي تنتسب له المقولة الديكارتية، وبعضها الآخر جاء متصلا ومتناغما مع حقول أخرى قريبة وبعيدة، وبعض هذه المقولات جاءت جادة ومحكمة وبعضها جاءت من باب الطرفة والهزل، وبعض هذه المقولات ركزت على جانب المعنى وبعضها ركزت على جانب البيان وجاءت من باب التشبيه لا غير، وهكذا تتعدد صور هذه المقولات وتختلف. ومن المقولات التي وجدتها على أنواعها في المجال العربي كعينة متفرقة لا غير، مقولة (أنا أؤمن فأنا موجود) ذكرها الباحث الجزائري الدكتور مصطفى الشريف في كتابه (الإسلام والحداثة) الصادر سنة 1999م، وحين طالعت كتاب الباحث الإماراتي الدكتور عبدالخالق عبدالله (اعترافات أكاديمي متقاعد) الصادر سنة 2014م، وجدته ملتفتا كثيرا للمقولة الديكارتية، ظهر ذلك في تقمصها بالإشارة إلى ثلاث مقولات جاءت متشبهة بها، ولكنها بعيدة عن حقلها ومجالها، فحين وجد متعة العيش في مرحلة التقاعد أطلق مقولة (أنا متقاعد إذا أنا موجود)، وحين تحدث عن شغفه بالقراءة أطلق مقولة (أنا أقرأ إذا أنا موجود)، وحين انغمس في العالم الافتراضي أطلق مقولة (أنا افتراضي إذا أنا موجود). إلى جانب مقولات أخرى أشار إليها الناقد اللبناني علي حرب في كتابه (الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي) الصادر سنة 1998م، من دون أن ينسبها إلى أحد، مثل مقولة (أنا أحب إذا أنا موجود)، ومقولة (أنا أحارب إذا أنا موجود). وهكذا تتعدد القياسات والتشبيهات والمحاكات وتتنوع وتختلف، وقد يصل الحال إلى درجة إطلاق مقولات يغلب عليها حالة الهزل والتلهي، من قبيل القول (أنا آكل إذا أنا موجود)، ومن قبيل (أنا أمشي إذا أنا موجود)، ومن قبيل (أنا أضحك إذا أنا موجود)، في دلالة على إمكانية الاقتراب من المقولة الديكارتية في المجال التداولي الشعبي والبسيط، بإدراك أو من دون إدراك. وأكثر ما أظهر تفوق هذه المقولة الديكارتية، هو أنها ثبتت لنفسها وجودا راسخا وقويا في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي الحديث، بشكل فرضت على معظم أو جميع الفلاسفة الأوروبيين الذين جاؤوا بعد ديكارت الالتفات إليها، والتوقف عندها، والنظر فيها فحصا ونقدا، اتفاقا واختلافا، لدرجة كان من الصعب على هؤلاء الفلاسفة تجاهل هذه المقولة أو التغافل عنها، أو التنكر لها، أو عدم الاكتراث بها. وهذا ما تأكد من موقف كبار الفلاسفة الألمان، وفي مقدمتهم كانت وهيجل ونيتشه وهوسرل وصولا إلى هايدغر، الذين انخرطوا في سجال نقدي ممتد ومتعاقب مع ديكارت ومقولته، ومن يعرف هؤلاء الفلاسفة وهيبتهم في تاريخ الفكر الفلسفي الأوروبي، يعلم جازما أن هذه السيرة النقدية الطويلة مع ديكارت ومقولته ما حصلت إلا لأنها من غير الممكن تجاوزها وتخطيها، أو التعالي عليها، ولا حتى التقليل من شأنها. والحاصل أن مع كل هذه السيرة الطويلة من النقد والتقويض والتشريح والتفكيك الصارم والقاسي والمستمر، وعلى أنواعه وأقسامه الفكري والفلسفي والنفسي واللغوي، مع ذلك بقت هذه المقولة الديكارتية وصمدت، لم تقوض أو تندثر، وما زالت في الذاكرة، وبعيدة عن الخفاء والنسيان، داعية الإنسان لأن يعلن عن وجوده بالقول أنا أفكر إذا أنا موجود.