العنوان: حديث الطريقة. المؤلف: رينيه ديكارت. ترجمة: د.عمر الشارني. الناشر: المنظمة العربية للترجمة؟ توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية. تاريخ النشر: 2008. عدد الصفحات: 399 صفحة. هل تم تجاوز ديكارت في الفكر الفلسفي المعاصر؟ نتذكر هنا أن ديكارت عاش في الفترة (1596 - 1650) . أي في افتتاح القرن السابع عشر الأوربي، قرن العقل والانطلاقة المفعمة للحداثة والتنوير الأوربي. يلح هذا السؤال اليوم عند العودة إلى ديكارت أو حتى فلاسفة التنوير اللاحقين كسبينوزا وكانط وهيجل وفولتير وغيرهم من فلاسفة التنوير الأوربي. بالنسبة لديكارت فبوصفه المدشن الأبرز للفكر الحديث فقد كان محللا لتفكير من لحقه من الفلاسفة حتى اليوم. اسبينوزا المعاصر لديكارت كان يعتبر كتب ديكارت منهجا للتعليم ليس بدون اعتراضات ولكن باعتبارها المعرفة الأعلى مكانة في عصره. هيجل من جهته كان يرى أن ديكارت هو واضع أسس فكر الحداثة حين نقل الفلسفة من سؤال معرفة إلى سؤال المعرفة. ثم الانتقال من قيود الموضوعي إلى التحرر الذاتي في إطار تأصيل الكوجيتو «أنا أفكر» وأخيرا تسييد الإنسان على الطبيعة من موقع الأخلاق. من جهة مقابلة كان نيتشه يرى أن مشروع المعرفة الديكارتي صارم، حيث يلزم الفكر العامي بتأهيل رياضي كما أن تعميم الذاتية بحيث تعطي أحكاما موضوعية، يتضمن أكذوبة لا يتحملها الواقع. مع نيتشه هنا نبدأ في توجه نقدي ضد الفلسفة الديكارتية بوصفها فلسفة العقلانية الصارمة التي فصلت بين المادة والروح وأسست ليقينيات قاسية. ولذا نجد أن فوكو يرى أن الفصل الصارم بين العقل والجنون تم مع ديكارت. هنا اعتراضات على المفهوم الحقيقية الديكارتية، الحقيقة النهائية المطلقة، الواثقة من نفسها. إلا أن هذا ليس كل شيء. فلدينا قراءة حديثة للفلسفة الديكارتية نعثر عليها مع فيلسوف الفينومينولوجيا أدموند هوسرل (1859 - 1938) وأقول هنا قراءة حديثة باعتبار أن الفلسفة الفينومينولجية هي أم الفلسفات الحديثة، الوجودية والهرمينوطيقية وتفرعاتها العديدة. العلاقة بين الديكارتية والفينومينولوجيا بقدر ما هي علاقة إشكالية نقدية هي علاقة وطيدة، فديكارت هو بالنسبة لهوسرل، كما يذكر ذلك هوسرل في كتابه «تأملات ديكارتية» الفيلسوف الذي قام بأهم اكتشاف في تاريخ الفلسفة أي اكتشاف قارة الكوجيتو، كما أنه يسمي الفينومينولوجيا في كتابه هذا بكونها «ديكارتية جديدة». فمن خلال دراسة «تأملاته»، استطاعت الفينومينولوجيا الناشئة حديثا أن تتحول إلى نموذج جديد للفلسفة المتعالية، إلى درجة يمكن أن نسميها على وجه التقريب ديكارتية جديدة، على الرغم من كونها وجدت نفسها مضطرة إلى استبعاد - تقريبا - كل المضمون المذهبي المعروف عن الديكارتية، ومضطرة إلى تبديل بعض القضايا الديكارتية تبديلا جذريا. كانت هذه إشارات هوسرل في محاضرته ألقاها في مدرج ديكارت بجامعة السوربون 1929. يرى هوسرل أن الفلسفة الديكارتية تحتوي على لب الفلسفة باعتبار أنه «لا بد في البداية، لكل من يريد أن يصبح فيلسوفا أن يعود إلى ذاته ولو مرة واحدة أثناء حياته، وأن يحاول في داخل ذاته قلب كل المعارف التي سلم بها حتى ذلك الحين، ثم بعد ذلك يحاول إعادة بنائها من جديد. إن الفلسفة - الحكمة - هي على نحو ما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف، فالفلسفة ينبغي أن تنشأ بوصفها فلسفته، وأن تكون حكمته هو، ومعرفته الخاصة، التي على الرغم من أنها تنزع نحو ما هو كوني، فإنها يجب أن تظل نتيجة لتحصيله الشخصي، وأن يكون بمقدوره تبريرها، من ولها وخلال كل مرحلة من مراحلها، باعتماد على حدوسه المطلقة. ومنذ اللحظة التي قررت فيها السعي نحو هذه الغاية، هذا القرار الذي هو وده القادر على أن يكفل لي الحياة والنمو الفلسفيين، فإنني أكون ضمنيا قد اعترفت في الوقت نفسه بما في معرفتي من فقر. ومنذ تلك اللحظة تبين لي أنه لابد أن أتساءل ابتداء: كيف يتأتى لي إيجاد منهج يمنحني طريقا أسلكه فأصل إلى العلم الحقيقي. إن تأملات ديكارت إذا ليست مجرد عمل خاص بالفيلسوف ديكارت وحده، ولا هي بالأحرى مجرد أسلوب أدبي استعمله لعرض رؤاه الفلسفية. بل إن هذه التأملات - هي على العكس من ذلك - ترسم النموذج الأصيل لنوع التأملات الضروري لكل فيلسوف يبدأ عمله، والتي هي وحدها الكفيلة بتوليد فلسفة ما». إذن قراءتنا هنا لكتاب «حديث الطريقة» أو «مقال في المنهج»، كما يترجمه محمود الخضيري، مبررة فلسفيا تماما بل أني أضيف أن قراءات ديكارت في السياق العربي مبررة أكثر باعتبار أن مهمة البدء في القول الفلسفي لم تتم بعد، وبالتالي فإن فلسفة نقد الجذور والأصول، الشك في كل شيء، وتحويل الفلسفة إلى مهمة الذات في فهم ذاتها والتعرف على من حولها، كل هذه طموحات نقرأ ديكارت اليوم بوحيها. يعتبر ديكارت كما هو معرفة نقطة التحول في التاريخ البشري فبه افتتح عصر الحداثة، لا يعني هذا اختزال كل تغيير في شخص ديكارت بقدر ما أن ديكارت كان المعبّر الأكبر والأوضح عن تحولات عصره. الشك هو أساس فلسفة ديكارت وروحها المحركة. ومع ديكارت أصبح الشك شيئا جديدا فهو الآن منهج للوصول إلى الحق. لم يعد الشك حالة يصل لها الباحث تؤدي به إلى اللا إرادية أو تمنعه من القول بوجود معرفة موضوعية كما عند السوفسطائيين اليونان ولم يعد الشك أيضا حالة ضياع نفسية يمر بها الباحث عن الحق ويحتاج إلى إنقاذ كما حدث مع الغزالي بل أصبح الشك منهجا للوصول إلى المعرفة وأساس تأسس عليه المعارف الجديدة. الشك عند ديكارت يختلف بدقة عن ما قبله من عدة نواح يذكرها جلال الدين سعيد فهو أولا شك إرادي لا مرضي كما عند الغزالي. هو أمر يقرره الباحث بوعي وإرادة من أجل عملية البحث.إنه طريق المعرفة. ثانيا: الشك عند ديكارت شك قطعي وجذري يقول ( إذ أعتبر الأشياء المشبوهة كما لو كانت خاطئة) . ثالثا: الشك عند ديكارت عام وكلي (فهو قد شك حتى في أكثر العلوم بداهة، أي في الرياضيات) . رابعا الشك عند ديكارت شك وقتي(فغايته هي الخروج من الشك، وهو لا يشك إلا لكونه يكره البقاء في الشك) .خامسا: الشك الديكارتي شك منهجي.(له خصائص محددة وللخروج من حالة الشك الكلية فلا بد من الالتزام بقواعد المنهج التي وضعها) . (معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص 258) . أراد ديكارت أن يحصل على معرفة يقينية ولكنه وجد بوضوح أن المعارف التي تحيط به معرضة للخطأ ومشبوهة ولا يمكن أن يؤسس عليها معرفة يقينية. عبّر ديكارت عن هذه الفكرة في أغلب مؤلفاته ففي كتابنا هنا «حديث الطريقة» أو «مقال في المنهج» يقول «فقد فكرت أنه من الواجب أن أدأب على عكس ذلك، وأن أنبذ كخطأ مطلق كل ما ألمس فيه أدنى شك»وكذلك في التأملات، التأمل 1 يقول«وكل ما يمكن أن يمثل لي منها موضوعا للشك سيكون كافيا لجعلي أرفضها جميعا». والمبادئ ج1فقرة 2 «وسيكون من المفيد جدا أن ننبذ كأشياء خاطئة كل التي نتخيل فيها أدنى شك». أغلب المعارف التي بحوزتنا هي تلك التي اكتسبناها عن طريق العادة والتقليد. من الأب والأم ومعلم المدرسة ورجل الدين وهذه المعارف تكون حاجزا دون المعرفة العقلية. يقول ديكارت في حديث الطريقة «تعلمت أن لا أثق وثوقا نهائيا من كل ما لم أتعلمه إلا من التقليد والعادة، وهكذا تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة يمكن أن تخمد نورنا الطبيعي وتجعلنا أقل قدرة على فهم لغة العقل) . (ص 66 - 67) . يتحدث ديكارت بضمير المتكلم بوعي عن خطوات يتخذها واحدة تلو الأخرى. لتصل به إلى أن الشك يطول كل شيء مادي وروحي إلا أنه في حالة الشك هذه لا يزال متيقناً من قضية أساسية وهي أنه يفكر ومن هنا أنتج أول قواعد المعرفة اليقينية وهي وجود أناه المفكرة. يضع ديكارت هذه العملية ضمن التأملات الأولى التي قام بها ويتردد في عرضها على الجمهور بسبب أنها «على جانب من الميتافيزيقا»(حديث الطريقة، ص156) . ولكن لا بد من ذكرها باعتبارها تمثل حجر الأساس للمعرفة اليقينية التي يبنيها ديكارت من خلال الشك. نحن هنا أمام المبدأ الأول للفلسفة التي كان ديكارت يبحث عنها. الكوجيتو «أنا أفكر، إذا فأنا كائن». وفي الصياغة اللغوية الفرنسية «أنني إذا كنت أفكر فأنا إذن موجود لكن بوصفي كائنا مفكرا». ولكي يكون هذا الاستنتاج موثوقا به يشرح ديكارت ماذا يعني بالتفكير.يقول في المبادئ«إني أعني بعبارة تفكير كل ما يحدث فينا، بحيث أننا ندركه مباشرة بأنفسنا، ولذلك ليس التفكير هو الفهم والإرادة والخيال فحسب، بل كذلك الإحساس. إذ أنني إذا قلت إنني أرى وأمشي واستنتجت من ذلك أني كائن، وإذا عنيت من ذلك العملية التي تقوم بها عيناي أو قدماي، فإن تلك الخلاصة لا تكون صحيحة إلى حد يمنعني من الشك فيها، وذلك لأنه يمكن أن أعتقد أني أرى وأمشي، رغم أني لا أفتح عينيّ ولا أنتقل البتة من مكاني، إذ إن مثل هذا الأمر يحدث لي أحيانا في المنام، ويمكن أن يحدث لي الشيء نفسه حتى ولم يكن لي جسم بتاتا.على خلاف ذلك، فإذا عنيت عملا فكريا أو إحساسيا فحسب، أي المعرفة التي توجد لديّ، والتي تجعلني أعتقد أني أرى وأمشي، فإن الاستنتاج نفسه يكون على درجة من الحقيقة المطلقة، بحيث لا أستطيع الشك فيه، لأنه يتعلّق بالنفس..». (ديكارت، حديث في الطريقة، ج4) في الكوجيتو تكمن «نقطة أرخميدس» للفلسفة الديكارتية والكوجيتو لا يقدّم معرفة محددة بقدر ما يقدم دليلا على إمكان المعرفة. إن الشك مع الكوجيتو هو شكل من أشكال الوعي بالذات وبمجرد ما يتضح هذا الوعي ونبعد عن الحجب القادمة من العادة والتقليد فإننا نعثر على مبدأ يجعل من المعرفة ممكنة ويجعل من الشك منهجا نصل من خلال السير عليه إلى الحقائق اليقينية. قواعد المنهج: ليس هدم المعرفة السابقة نابعا من رغبة في التجديد فقط بقدر ما هو نابع من الإحساس بخطر تلك المعرفة المشرفة على الانهيار. فهي كالبيت الذي يهدم لا رغبة في بناء بيت جديد في الأساس بل لأن البيت القديم أصبح خطرا على حياة ساكنيه. هدم المعرفة السابقة جاء بسبب أن الأدوات الموجودة فيها غير قادرة على فحصها. الأدوات عند ديكارت هي المنطق والهندسة والجبر. فهل هذه المناهج قادرة على فحص المعارف المتوارثة. أما المنطق فهو كما يرى ديكارت، وهو يتحدث عن منطق القرون الوسطى، فإن قياساته وأغلب تعاليمه تصلح لشرح ما نعرفه دون أن تملك القدرة على الحكم على الأمور التي نجهلها. أي أنها وسائل لشرح المعارف الموجودة وليست وسائل لاكتشاف الحقائق المجهولة. أي أنها في النهاية تحصيل حاصل لا توفر قدرة على الشك في مبادئها وأسسها. أما الهندسة والتحليل، يقول ديكارت«فعلاوة عن كونهما لا يشملان إلا مواد مجردة جدا تبدو وكأنها غير صالحة لشيء، فإن الأول، أي الهندسة، يبقى مقيدا بفحص الأشكال، إلى درجة أنه لا يستطيع ترويض الذهن دون إرهاق الخيال. وقد التزم الناس في الثاني، أي الجبر، ببعض القواعد وبعض الأعداد إلى حد أصبحوا معه يجعلون منه فنّا غامضا ومبهما يكبّل الفكر عوضا أن يجعلوا منه علما يثقّفه» وهنا جاءت الحاجة إلى منهج جديد. منهج يقوم على القواعد التالية: أولا: أن لا أقبل أبدا أي شيء على أنه حقيقة دون أن أعرف معرفة جلية أنه كذلك.ثانيا: تقسيم كل من الصعوبات التي أفحصها إلى ما يمكن من الأجزاء وما ينبغي لحلها على أفضل وجه.ثالثا: تسيير أفكاري حسب نظام مبتدئ بأبسط المواضيع وأيسرها على المعرفة للارتقاء شيئا فشيئا، وحسب التدرج إلى معرفة أكثر تركيبا، ومفترضا وجود نظام حتى بين التي لا تتابع بصورة طبيعية.رابعا: أن أقوم في كل المواطن بتعداد على درجة من الاكتمال، ومراجعات على درجة من الشمول، بحيث أكون واثقا من أنني لم أهمل شيئا. مع ديكارت أصبح الشك منهجا علميا لم تعد تقبل المعارف والأفكار إلا بالمرور عليه. لقد تحول إلى نظام للفكر «إبستمي» شامل للحضارة الغربية في عصور التنوير والحداثة.الشك هو أساس المعرفة. والمعرفة التي لا تظهر عليها دعامات مقاومة الشك فهي ليست معرفة معتبرة.أصبح منهج الشك مقياسا عاما لعصره ويمكن القول أن كل المعارف التي أنتجت في هذا العصر هي محصلات لمنهج الشك الجديد. تحول الشك من مرض إلى منهج. ويمكن لنا القول هنا أن نقول أن العقل الشكي أصبح وللمرة الأولى في التاريخ المعروف هو إبستمي العصر وتوارى العقل التسليمي إلى الخلف كثيرا وأصبحت المعرفة التي تقدم نفسها انطلاقا من قوانين التسليم مرفوضة ومزدراة من قبل الأوساط العلمية والسلطات الفاعلة في المجتمع. ولكن علينا أن نتذكر هنا أن الحديث يخص أوربا وأمريكا الشمالية أما الأجزاء الأخرى من العالم فهي لا تزال تقبع في إبستمي التسليم وستنتظر الكثير منها القرن العشرين للخروج من هذا الإبستمي وتظل البقية كما هي عليه.