ليست الكتابة التعريفية بديكارت وفلسفته وعلمه بالشيء الجديد ولكنها في الساحة الفكرية المحلية شيء جديد فلأول مرّة في ما أعرف يؤلف كتاب كامل عن ديكارت من قبل مؤلف سعودي. كُتب عن ديكارت من قبل سعوديين دراسات وبحوث مثل ما كتبه أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وحمد المرزوقي وغيرهما من الكتاب ولكن كتابا عن ديكارت من مؤلف سعودي ودار نشر سعودية هو أمر يحدث للمرة الأولى وهذا حدث له معنى فلسنا هنا نتحدث عن أي فيلسوف بل عن ديكارت صاحب منهج الشك ومفتتح العقل الحديث وصاحب أحد أكبر الثورات في تاريخ الفكر الإنساني. مؤلف الكتاب هو الأستاذ حمد الراشد أحد المهتمين بالفلسفة ويشرف على موقع للإنترنت يكتب فيه مجموعة من الشباب السعوديين المهتمين بالفلسفة والذين يمثلون جيلا جديدا من المثقفين السعوديين يتوجهون مباشرة إلى الفكر الفلسفي ويتناولون قضاياه، هذا الاهتمام يفترض أن يؤدي إلى طرح فكري معمق ويتوجه إلى نقاش القضايا الأكثر عمقا وإشكالية وحظرا. بالتأكيد أن كتاب الراشد يأتي في هذا السياق وإن بدا الكتاب تعليميا بحتا إلا أن تقديم ديكارت بحد ذاته في الساحة الفكرية هو تقديم لرؤية وموقف واضح ومهم. من هو ديكارت؟ يتكون الكتاب من اثني عشر فصلا قصيرا تأتي البداية تعريفية بميلاد ديكارت ونشأته. حيث ولد ديكارت بفرنسا سنة 6951ودرس في مدرسة دينية ولم يعجب بمناهجها القائمة على التلقين والتقليد. كانت هذه السمة هي السائدة في التعليم في أوروبا في القرون الوسطى امتدادا مع عصر النهضة الذي بدأت فيه بشكل بسيط روح التمرد على التقليد وإن كانت أيضا عن طريق الرجوع إلى الأعمال الإنسانية التي كتبت قبل العصر المسيحي من قبل مثقفي وأدباء اليونان والرومان. لم تتم في هذه المرحلة من تاريخ الفكر الأوروبي مواجهة مع التراث المسيحي ولكن كان تخطيا له وفتحا لآفاق أخرى وكانت هذه بداية الفكاك من الانغلاق. في رحلة لهولندا من أجل التدريب العسكري تعرف ديكارت على عالم هولندي يقال له "بيكمن" وبتأثير منه توجه ديكارت إلى دراسة العلوم والرياضيات. من سيرته الذاتية يبدو أن هولندا كانت المكان المناسب لإقامته ففيها عاش فترات طويلة من عمره القصير وكتب فيها أغلب مؤلفاته، يذكر الراشد تفسيرا لذلك بتوفر الهدوء في هولندا بعيدا عن ضجيج مثقفي باريس ولكن لهولندا أيضا تاريخا في التسامح الفكري ربما أغرى ديكارت للعيش فيها. ديكارت عالما يعرّف الراشد بديكارت بوصفه عالما قبل وصفه بالفيلسوف ولعلّه يريد أن يلفت الانتباه لهذا الجانب الأقل شهرة من الآخر فقد عرف ديكارت كفيلسوف أكثر من كونه عالما. يخصص الراشد فصلا لهذا الجانب من اهتمامات ديكارت يقول الراشد "ويعد ديكارت بالتوازي مع مجال الفلسفة عالما رياضيا وطبيعيا، ومن أهم المجالات العلمية التي اهتم بها ديكارت : الرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك وعلم وظائف الأعضاء، وكان يرى أن أي عالم طبيعي مهما كان مجاله لا بد أن يبدأ بالرياضيات بحيث يعتبرها مرجعا وأداة للعلوم تساعد في اكتشاف الحقائق العلمية". كل من درس الرياضيات في المرحلة المتوسطة لا بد أن يكون درس الجداء الديكارتي أو الإحداثيات الديكارتية في الهندسة. ولعل منجزات ديكارت في الرياضيات والهندسة هي أكثر منجزاته العلمية قيمة واستمرارا مع تقدم العلوم. وإلا فإن الكثير من آرائه العلمية الأخرى قد طواها النسيان بفضل تقدم المنهج العلمي الهائل من ذلك الوقت إلى اليوم. ديكارت فيلسوفا برأيي أن قيمة ديكارت الكبرى هي في فلسفته وخصوصا في منهجية الشك التي وضعها كمنهجية للتفكير. ويرى بعض الباحثين (إبراهيم مصطفى في كتابه مفهوم العقل في الفكر الفلسفي مثلا) أن الحراك العلمي السابق والمرافق لديكارت (فرانسيس بيكون، جاليليو وقبلهما كوبرنيك وكبلر) ساهم في تقبل الطبقة المثقفة ولاحقا الطبقة المتعلمة لفكر ديكارت. تأتي فلسفة ديكارت لتقطع أبستيمولوجيا مع فلسفة القرون الوسطى، فهي فلسفة تقوم على الشك فيما تقوم فلسفة القرون الوسطى على اليقين وهي فلسفة فردية تقوم على بروز الأنا واعتمادها بينما تقوم فلسفة القرون الوسطى على السلف وقيمة الأسبقين. من هنا يعتبر ديكارت أبا للفلسفة الحديثة وعرّابا لها ومن هنا تأتي القيمة الجذرية لكتابه الأساسي "مقالة في المنهج" وهو كتاب وضعه ديكارت ليشرح فيه منهجه للتفكير، منهج الشك الديكارتي أو الشك المنهجي. شخصيا يعتبر هذا الكتاب أهم الكتب التي قرأتها حتى الآن وأكثرها أثرا فيّ. لا أنسى تلك الأيام التي اعتكفت في مكتبة حائل العامة في زاوية قصية أقرأ وأتأمل قضايا هذا الكتاب. الذي يدعو بشكل أساسي إلى مراجعة كل شيء فليس هناك ما يستحق ثقتنا المطلقة ويبقى الشك محيطا بكل الأفكار التي نحملها. من أين استقينا أفكارنا؟ لقد استقيناها من المجتمع ومن المدرسة ومن الكتب وكل هذه مصادر معرضة للخطأ، لا يملك أحد منّا مصدرا لا يمكن الشك فيه. دعا ديكارت للشك في كل شيء والبدء في تفحص الأفكار التي نحملها وإعادة النظر بجدية فيها. هي مهمة شاقة ولكنها تحمل في داخلها معنى الوجود الحقيقي. من أين انطلق ديكارت في منهجه وهو يواجه خطر الشك المطلق الذي يجعل من إمكان المعرفة مستحيلا، انطلق من بديهية أولى وهي وجوده كذات مفكرة، فإن كان شك في وجوده الحسي انطلاقا من شكه في الحواس عموما إلا أنه لم يستطع أن يشك في كونه يفكر والتفكير دليل على الوجود "أنا أفكر إذن أنا موجود" . لا يقبل ديكارت في تفكيره إلا البديهيات أي الأفكار الواضحة وضوحا تاما بذاتها ثم يستنبط منها برهانيا أفكارا يمكن الوثوق فيها. قواعد المنهج الديكارتي يورد الراشد القواعد التي يقوم عليها المنهج الديكارتي كالتالي : أولا : قاعدة اليقين والبداهة: ومعناها ألا نثق في شيء ما أو نقبل به على أنه صواب إلا بعد أن يقوم ذهننا بفحص جميع الأفكار التي نمتلكها. والوسيلة إلى تحقيق هذه القاعدة تتحقق بإتباع ثلاثة مبادئ : تجنب التسرع في الأحكام وعدم الميل مع الهوى وعدم قبول شيء غير بديهي. القاعدة الثانية قاعدة التحليل: ومعناها تقسيم المعضلة التي تواجهنا وتكون مستعصية على استيعابنا إلى عناصرها المكوّنة لها أو إلى أكبر قدر ممكن من الأجزاء التي تنحل إليها. القاعدة الثالثة : قاعدة التأليف أو التركيب وهي أهم القواعد بنظر ديكارت يقول ديكارت "ينحصر المنهج أجمعه في أن نرتب وننظم الأشياء التي ينبغي توجيه العقل لاستكشاف بعض الحقائق. ونحن نتبع هذا النهج خطوة خطوة إذا حولنا بالتدريج القضايا الغامضة المبهمة إلى قضايا ابسط، وإذا بدأنا من الإدراك البديهي لأبسط الأشياء كلها فإننا نرقى بنفس الدرجات إلى معرفة سائر الأشياء". القاعدة الرابعة قاعدة الاستقراء التام أو الإحصاء الشامل وتتلخص بلزوم النظر الشامل في كل الحدود التي تؤلف موضوع المشكلة، والتي تكوّن سلسلة الاستدلال الاستنباطي، بغية إدراك العلائق القائمة فيما بينها بديهيا من ناحية ثم استنباط هذا الحكم النهائي الذي يبلغ مرتبة البداهة من حيث درجة اليقين. ماذا تبقى من ديكارت؟ يستكمل الراشد في بقية الفصول باختصار تصنيف الأفكار عند ديكارت والثنائية الديكارتية وميتافيزيقا ديكارت وخصائص العالم وقوانينه وآراء ديكارت في التربية والأخلاق ومؤلفات ديكارت وعلاقته بعلم النفس ومكانة ديكارت وآراء لكبار الفلاسفة فيه ونصوص مختارة له مما لا يتسع المجال هنا لاستعراضها ولكن من المهم هنا أن نطرح سؤالا مهما عن ماذا بقي من فلسفة ديكارت اليوم بعد 214سنة من وفاته سنة 6951؟ . برأيي أن الذي بقي من ديكارت حتى الآن هو أساس فلسفته وأساس الفلسفة الحديثة كلها وهو الشك المنهجي. أي الشك عن طريق المنهج. الشك هنا يعني النقد والانفتاح واستمرار البحث والسؤال. لقد أسقط الشك الديكارتي أصناما كبيرة طالما أعاقت العقل البشري. الشك المنهجي يرفض كل الأصنام أيا كانت، يرفض أن تأخذ الأفكار قيمتها من أصحابها لا من قيمتها المعرفية وهنا بالذات تأتي قيمة تقديم ديكارت في الساحة الفكرية المحلية. الشك والانفتاح والسؤال والتخلص من هالة الأشخاص والقدم هي برأيي أكثر ما يفتقده الفكر المسيطر والمنتشر والأكثر أثرا. إن العقل المسيطر اليوم عندنا هو ما أسميه العقل التسليمي العقل الذي يقوم على التسليم بالسائد مادام له مرجعية في السلف الأوائل، يعترف به مادام له مرجع من الأقدمين بغض النظر عن قيمته الحالية، هذا العقل يوقف الحركة بالضرورة ويصيب الإنسان بالتبلد والتحجر والتطرف والتعصب. في المقابل يؤسس المنهج الديكارتي للعقل الشكي الذي أصفه بأنه "جملة المبادئ والقواعد التي تدعو الفرد والثقافة إلى إعادة التفكير في الأفكار الخاصة والمنظومة الفكرية السائدة ونقدها باستمرار". "وهو قاعدة تبعث العمل العقلي ولا توجهه إلى نتيجة مسبقة" هذا العقل بالضرورة منفتح على الآخرين من الأفكار والأشخاص ويساهم في فك التعصب والتطرف ويعتبر برأيي أساس مكافحة الإرهاب الفكرية. هذا ما تبقى من ديكارت أكثر من أي شيء آخر، أكثر منجزات ديكارت العلمية وآرائه في المجالات الأخرى قد تم تجاوزها اليوم بفضل التقدم العلمي الهائل والثورات العلمية التي تم إنجازها في القرون الأربعة الماضية قرون النهضة والتنوير والحداثة وما بعد الحداثة. مع هذا التقدم كله لا يزال ديكارت كرائد للشك المنهجي محط اهتمام البحث الفلسفي حتى الآن ومن المؤكد أن احتياج الثقافة العربية للمنهج الديكارتي أكبر من أي ثقافة أخرى فروح القرون الوسطى لا تزال تحيط بالعقول وتوجهها وتتحكم في حراكها. وهنا بالتحديد نعرف قيمة كتاب حمد الراشد الذي أتمنى أن يثير معه الكثير من النقاش حول قضايا الأساس والجذر. يعدنا الراشد أنه سيكمل بكتب لاحقة مسيرة التعريف بأهم الفلاسفة ونحن بالتأكيد ننتظر تحقيق هذا الوعد.