حينما تفشل في تعريف الآخر، أو تقنع نفسك بعدم فهمه كما هو، وتتغلب عليك قبل ذلك عاطفة حب الأنا وتضخم الذات؛ فأنت تسقط عليه كل ما ليس فيه، دفعة واحدة، ظنا منك بأنك قد تقضي عليه بالضربة القاضية وتحصن نفسك ومجتمعك منه أو على أقل تقدير تشغله برد على ما أسقط عليه، ويشغلك هو -من حيث رغب أو لم يرغب- في البحث في كل مرة عن إسقاطات جديدة، في حلقة مفرغة لا نهاية لها فمن حيث تنتهي تبدأ. كل هذا وأكثر منه يحدث وأنت تعلم إلى درجة اليقين، بأن حكمك هذا ليس فقط لا يجانبه الصواب، بل هو قول أقرب إلى سفسطة ليس لها محل من الإعراب بجميع لغات العالم الحية منها والميتة، ومع هذا لا تنفك عن ممارسة هوس الإسقاط، وكأنه حق طبيعي وأمر هو إلى العقل أقرب..!، بمكابرة منك تتجاوز بها كل أشكال العرف وأدبيات الاختلاف، ويصبح كل همك هو إسقاط من تختلف معه. هل هذا حال أغلب المجتمعات العربية اليوم.. أي بمعنى آخر هل الإسقاط ظاهرة في المجتمع العربي؟ الإسقاط ظاهرة إنسانية قديمة، عرفها العرب قبل الإسلام، وبرزت في صدر الإسلام بصورتها العميقة حينما نعت المشركون، النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بنعوت ليس لها من الواقع مكان، كشاعر وساحر ومجنون وكاهن، برغم علمهم يقينا بعدم حقيقتها، ولكنهم جمعوا كل جهابذتهم لإحيائها في نفوس المجتمع المكي آنذاك، ولكن سرعان ما تلاشى الوهم وبقيت الحقيقية. حدث هذا قبل أكثر من 1400سنة. أما اليوم فأرى أن حالة الإسقاط ممن يدعون بأنهم حملة الرأي ونخب المجتمع، باتت من كثرتها ومحاصرتها للمجتمع العربي -وبالأخص عبر قنواته الأكثر شعبية وانتشارا- تشكل ظاهرة تتغلغل في وعيه، ومن ثم يساهم في تسويقها. أين تكمن خطورة مثل هذا الفعل؟ يجب أن نعرف أن مفردة الإسقاط حينما تتحول إلى ظاهرة متغلغلة في المجتمع؛ يصبح أي منطق أو حديث عقلاني، أشبه بشاذ خارج عن سياق المجتمع وثقافته، ومن هنا تكون معالجة هذه الظاهرة لا أقول مستحيلة، ولكن ليس بالأمر الذي يمكن معالجته بالسهولة التي ولدت به وترسخت؛ لأن عليك أولا أن تقنع نخب المجتمع من أصحاب رأي ومثقفين وأساتذة جامعة، وغيرهم ممن لديه حضوره الواسع في المجتمع، بأن رأيه الفلاني أو فكرته إسقاطا ليس له واقع، فهل من تضخمت ذاته على حساب المنطق، وأصبح ممن يشار له "بالبنان" في مجتمعه وتتلقفه قنوات الإعلام؛ بسبب سلسلة إسقاطاته التي أصحبت تتناقل عبر «تويتر» وأخواته، ممكن أن يغرد بما هو نقيض لكل ما قاله، ناهيك أن البعض أصبح يستمرئ هذا التزييف؛ لأنه يشكل له حضورا في المجتمع، ربما لو تكلم بغير هذا؛ لأصبح خارج الضوء. إضافة إلى أن هذه ظاهرة تجر أحيانا حتى العقلاء؛ للرد على هذه الإسقاطات والانشغال بها، فبدلا أن ينصب النقد على حقيقة الفكرة أيا كان قائلها، ليكون النقاش مثريا للفكرة والمجتمع، يتحول الأمر إلى سجال سفسطائي وفكرة ليس لها وجود، يفرضها في الغالب من له تأثير في المجتمع، أي أصحاب ثقافة الإسقاطات وتزييف الواقع، وتسوق في المجتمع على أنها الحقيقة التي لا مرية فيها.! كل هذا يحدث على حساب الحكمة، التي هي في النهاية ضالتي أنا وأنت. هل عرفت الآن إلى أين نحن ذاهبون؟.