أعرف رجلاً بسيط التعليم، يقولون عنه إنه يمثل مدرسة السفسطائيين في الفكر والفلسفة بطريقة غريزية تلقائية، ويقولون إن سفسطته طبع. من أين أتينا بصفة «طبع» هنا؟ إنها الطبيعة، أي إن الله خلقه هكذا. لماذا عدوه أنموذجاً حيا للسفسطائية؟ لأنه يتشكك في كل شيء، ويعترض على كل شيء، ويريد أن يفهم وأن يعقلن كل شيء. برغم اعترافه بأن العقل لا يمكن أن يعرف كل شيء وأن فيه قصوراً ملحوظاً. وأن هناك مساحات مازالت خارج حدود تغطية العقل. وبعد كل هذا التشكك في كل شيء، حتى في بعض الأحكام الشرعية والدينية، يقوم صاحبنا إذا نودي للصلاة فيتوضأ ويصلي بخشوع. هل صاحبنا سفسطائي؟ للإجابة على هذا السؤال لابد أن نرجع 2500 سنة إلى الوراء. لقد عرف تاريخ الفلسفة نوعين من المذاهب، المذهب المثالي والمذهب المادي، وهناك طرف ثالث عاش على الضفاف. هؤلاء هم السفسطائيون الذين وجدوا من أيام الإغريق. وقد كان كثير من المؤرخين يلحقونهم بالمذهب المادي، فقد كان بروتاغوراس (توفي سنة 410 قبل الميلاد) أول مشاهير الشكاك تلميذاً من تلاميذ ديموقريطس (توفي سنة 361 قبل الميلاد) أبو المادية الأولى. إلا أنني أعتقد أن المؤرخ للفلسفة يجب أن يجعلها ثلاثة مذاهب لا اثنين، وفي رأيي الخاص أن الفلاسفة كلهم، منذ بداية تدوين تاريخهم، من طاليس الذي مات في سنة 550 قبل ميلاد المسيح عليه السلام ومروراً بديفيد هيوم (توفي 1776) وبرتراند راسل (توفي 1970) إلى جاك ديريدا المتوفى في سنة 2004 لا يمكن أن يخرجوا عن هذه المذاهب الثلاثة، وقد كان جاك ديريدا سفسطائيا بامتياز، وما كانت التفكيكية إلا سفسطة كسفسطة الأغريق الأوائل بروتاغورس وجورجياس، أعني من جهة المنهجية. نشأت السفسطائية في اليونان، عندما استطاعت أثينا أن ترد عن نفسها غزوات الفرس التي كانت تسعى لتركيعها، فسعى اليونان لبناء دولتهم الخارجة من حالة الحرب، وصارت أثينا مطمح كل عالم وشاعر وفنان ومؤرخ وطبيب. ثم قويت فيها روح الديمقراطية وانتقلت لكل المدن اليونانية، فخفت الديكتاتورية وقويت النزعة الفردية وزاد تنافس الأفراد على المنافع، فزادت مع ذلك نسبة الترافع إلى القضاء وانتشر بينهم الجدل التشريعي والسياسي فأصبح من الضرورة أن تتزايد الحاجة للفصاحة والبيان وتعلم الخطابة والمحاججة واستمالة الجماهير، فقامت شريحة من المثقفين بهذه المهمة، وكان هدفهم الوحيد هو المال فقد كانوا يتقاضون الأجر على تعليمهم الناس، فنزلوا بالعلم لمكانة الصنائع. المصطلح (سوفيستوس) يعني: المعلم. لكنها صارت تدل بعد ذلك على من يجادل بالمغالطة. وكان السفسطائيون يتفاخرون بقدرتهم على تأييد القول وضده، لأن ذلك من وجهة نظرهم يدل على قوة الحجة. إذن فهم أقرب ما يكونون في عالمنا المعاصر لمهنة المحامي المحتال الذي لا يهمه الحق، بل الانتصار في قاعة المحكمة. وكان بروتاغوراس يعلم تلاميذه كيف يكونون سياسيين ناجحين فحسب، دون اهتمام بالفضيلة أو الحق. ولم يكن يعرّف العلم على أنه معرفة الحقيقة، ولم يكن يرى له قيمة ذاتية، بل هو مجرد وسيلة لكسب المنفعة. وبرغم فساد دين اليونان الوثني، إلا أن بروتاغوراس اتهم بالزندقة وحكم بإعدامه ففر هارباً ومات غرقاً أثناء فراره. السفسطائية لم تشيّد مذهباً ولم يكونوا فلاسفة بالمعنى الفني للكلمة. فهم لم يتخصصوا في مشكلات الفلسفة، بل إنهم كانوا يسخرون من العقل نفسه.ولذلك كانوا يرون أنه لا توجد حقيقة موضوعية ولا توجد حقيقة مستقلة عن الذات الفردية فالإنسان مقياس الأشياء جميعاً، وجوداً وعدماً. إنها فلسفة هدمية لا بنائية واتجاه مدمر ومعاد للجميع. إنها فلسفة مدمرة للدين والأخلاق وأسس الدولة وكل المؤسسات القائمة، كليّا أو جزئياً. فاعتقادهم أن الحقيقة هي ما أعتقده أنا والخير يستمد خيريته من فعلي أنا له، فألغوا بذلك كل حقيقة خارجية مستقلة عن الإنسان. إنها التطبيق المتطرف للمبادئ الذاتية المتمركزة حول الذات. إنها فكرة لا تبني مجتمعاً ولا دولة، بل هي ضد كل ذلك لفرط أنانيتها وفردانيتها، ولذلك كانت تقتات دائما من العيش على الضفاف. قد يظن ظان أن دراسة السفسطائية يفترض ألاّ تهم أحداً سوى المؤرخين. بينما المتأمل يجد أن الفكر الشعبي الحديث يسبح في أفكار واتجاهات السفسطائيين، والرجل الذي ذكرته في بداية المقالة ليس شخصاً بعينه بل هو مثال لكثيرين ممن تأثروا بالأسئلة السفسطائية. إنهم لا يشبهون أحداً في العائلة الإنسانية إلا ذلك الولد المشاغب الأناني الذي لا يشعر بالمسؤولية تجاه بيته وعائلته ويبقى معربداً أنانيا طوال عمره.