تلقيت تعليقات حول المقالة السابقة «وتظل سفسطة»، وفي أغلبها معارِضة ومنّتقدة، كما لو أن السفسطة لا تدخل في مناحي حياتها، فالأساليب والأقوال السفسطائية تغالِط وتضلِّل وتُلبس الحق باطلاً والعلم جهلاً، فالسفسطة صفة منتشرة للمرء الذي يلجأ للمغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام، فماذا في ذلك حتى يُعترض عليه بالشكل الذي وصلني؟ وعلى ذكر التمويه، لنعد إلى جذر الكلمة، وهو ليس عربياً، وإنما مركب يوناني مكوّن من شقين، الأول من «سوفيا»، ويعني الحكمة، والثاني من «أسطس»، ويعني المموّه، وباجتماعهما تكون «الحكمة المموهة»، وليس كما يعتقد أن «سوفسطا» كان اسماً قديماً لأحدهم، وكان مذهبه إبطال الحقائق والعلوم، فسمي من يتبعونه وينصرون آراءه بالسفسطائيين، فهذا ليس صحيحاً تاريخياً، إلاّ أن نصف المجادل ب«جدلي»، لأنه ينسب إلى شخص كان يسمى جدل، وإنما يطلق عليه جدلياً لنوع مخاطبته، وقدرته على استغلال صنعته في قلب الحقائق، سواء في نفسه بالإيهام بأنه ذو حكمة وعلم وفضل، أو في غيره بأنه ذو نقص، أو في رأي حق أنه ليس بحق، وفي ما ليس بحق أنه حق، ولا أحسب أن بعد هذا الإيضاح لا يزال المعنى ملتبساً على القارئ. ولننتقل من موضوع السفسطة إلى سيئات أخرى للربيع العربي، ومنها ذلك الأسلوب الجريء في المعارضة بلا مراعاة لأدنى أصول المخالفة، وكأن جماعات ربيعنا الخريفي فلت عيارها، فدخلت في مزاج استباحة لكل شيء، فكل من له كلمة لا يتورع عن نشرها كيفما تأتي، وكل من له اعتراض لا يتوانى ولا يتأخر عن تقديمه بالقول أو بالفعل لا يهم، الأهم ألاّ يفوته موسم الاعتراضات، حتى فقد الاحتجاج معناه، لأنه سبق وفقد هدفه، وكأنه مجرد انحدار إلى رفع للصوت ولليد والسلام، تماماً كما لو أنها قنبلة غضب وقهر مكبوتة وانفجرت ولم تجد من يلملم شظاياها، وكله مشترِك في موضة المزايدات، وكله يتكلم باسم الوطن والوطنية، وباسم الفساد والنزاهة، وكأن من خان وأفسد، هبط علينا من السماء، فنصب واحتال ونحن وقوفاً نتابعه بعيون لم تعهد الكذب، ونفوس لم تعرف الغش ولا ما جرى أمامها. لا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء نفسه، فإذا كان اعتراضك على المسؤول أنه لا مسؤول، فهل هذا يعني أنك شخص مسؤول في موقعك أياً كان مكانك؟ هل اعتراضك على انهيار الأخلاق أنك الأخلاقي أياً كان موقفك؟ هل اعتراضك على تضعضع الضمير أنك صاحب الضمير العاشق لثقافته أياً كان زمانك؟ فإن كنت المسؤول الأخلاقي ذا الضمير اليقظ، إن كنا جميعنا من هذا «الجروب»، فمن أين دخل علينا البلاء؟ ومن أي شقوق دهمنا الدمار؟ باختصار هل اعتراضنا على الأشخاص الموجودين الذين كانوا موجودين، لأننا نعتقد في أنفسنا أننا ضدهم ومن طبيعة مختلفة عنهم، فنحن الأفضل منهم والأصلح عنهم، أم أن اعتراضنا عليهم لشعورنا بأن زماننا في اقتسام الغنائم حل أوانه، فابتعدوا يا موجودين عن الساحة كي تفسحوا التنعّم لغيركم؟ أمّا الجواب فتوفره المادة الحية لكل من ذهب وأتى غيره، وهو لا يعني أن التخلص من الأسد فكرة عاطلة مثلاً أو تحتاج لمراجعة، ولكن لا تعني أيضاً أن من يخلفه سيكون من سكان كوكب زحل، وإنما مخلوق عاش وتربى في سورية، والوطن العربي عموماً. رحم الله المتنبي وفي كل أمر يعترض الإنسان له شعر يلخِّص القصائد والمعاني، يقول أبوالطيب: والظلم من شيم النفوس فإن تجد/ ذا عفة، فلعلة لا يظلم، وهو منطق تبريري من وحي الواقع ومعاناته، وكل من احتك بالناس وتعامل معهم يدرك ألم هذا المعنى، فإن وجدت من يحكِّم ضميره «بحق» ولا يرضى سوى بتصوره الاحترامي عن نفسه، فاعلم أن هذا الشخص من الفئة الصالحة والنادرة، وحتى هذه النزعة تحتاج إلى مجاهدة عالية تعرف المواظبة ولا تعترف باليأس، أمّا بقية فئات الناس الغالبة فمن حزب السفسطة، ثم وبعد هذا تجدها تعترض وتقول: «سفسطة؟ ما السفسطة؟»، حسناً هي أكلة شعبية تسفسطت، فتحوّلت إلى مصطلح. [email protected]