قال لصاحبه وهو يحاوره: أما بلغك تكفير علامتكم البراك لسواد المسلمين؟! صاحبه: لم يبلغني هذا، وهل يقع في مثل هذا عالِمٌ، فضلاً عن متخصص في العقيدة؟! هو: لا ترُغ في جوابك، ولا تنكر خبراً بات معلوماً للقاصي والداني! صاحبه: ليس في المسألة أي مراوغة، فأين وجدتَ تكفيره لسواد المسلمين؟ هاتِ نقلاً عنه يكشف مراوغتي، ويفضح خديعتي كما تدعي! هو: وجدته في موقعه بإملائه وتوقيعه، فدونك إياه: "ومن استحل هذا الاختلاط وإن أدى إلى هذه المحرمات فهو مستحل لهذه المحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتدا، فيُعرَّف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله"أه. أرأيت كيف يكون التكفير عند علمائكم بالجملة، بعد أن كانت بالتجزئة! صاحبه: لا أحب هذه القراءة المجتزئة للنص من سياقه، لتأتني بالفتوى بتمامها حتى أبدي لك رأيي.. (يعطيه قصاصة الفتوى، فيقرأ صاحبه في أولها قول الشيخ "فإن الاختلاط بين الرجال والنساء في ميادين العمل والتعليم...حرامٌ؛ لأنه يتضمن النظر الحرام، والتبرج الحرام، والسفور الحرام...) صاحبه: ظاهرٌ أن الشيخ يعني اختلاطاً خاصاً متضمناً للنظر الحرام والسفور والخلوة.. وليس كل اختلاط.. هو: أياً كان الأمر، فهو يكفر كل من يعمل أو يَدرُس في بيئة مختلطة، بل تجاوز ذلك إلى البيوت التي يختلط فيها الرجال بالخادمات اختلاطاً قريب الشبه من اختلاط التعليم والعمل...أرأيت كيف هو تكفير بالجملة ! صاحبه: عفواً، هذا من تحميل فتوى الشيخ ما لا تحتمل، وإلزام الشيخ بما لا يلزم، ولم أجد في فتواه ما يلزم منه تكفير هؤلاء بالجملة، إنما هذا من كيسك! هو: أنا لا أجيد هذه المراوغة التي تجيدها، ولا أحسن هذه السفسطة، قلت لك: إن هذا الاختلاط الذي يعنيه شيخك حاصلٌ في كثير من المستشفيات والمؤسسات الأهلية، بل وفي أكثر البيوت، فكيف تقول إنه لا يكفر المواقعين لهذا الاختلاط المتضمن للسفور والتبرج...إلخ؟ صاحبه: حتى اختصر عليك الأمر: في الفتوى مسألة مهمة لا تحسنها أنت؛ لأنك خارج حدود التخصص الشرعي مع احترامي الكبير لتخصصك ، وهي أن ثمة فرقاً بين فعل المعصية واستحلالها، فهل تدرك هذا؟ هو: كلا! فهذا شيء جديد لم أسمع به من قبل، فهل له مساس بمسألتنا؟ صاحبه: نعم، وإليك التوضيح: كل كبيرة دون الكفر يفعلها المسلم وإن أصر عليها، فإنه لا يكفر بها، مهما بلغت درجتها في سلم الكبائر، فشارب الخمر عاصٍ، والزاني عاصٍ، وقاتل النفس المعصومة عاصٍ..إلخ، فإذا استباح مسلمٌ الزنا بمعنى اعتقد حِلَّه وأنكر تحريمه بعد أن بلغته الآيات الصريحات في تحريمه ، أو استباح الخمر من حيث هي خمر، أو استباح قتل النفس المعصومة بعمومها منكراً تحريمَ قتلها، فهو مرتدٌ حتى وإن لم يفعل شيئاً من هذه المعاصي، فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإنما يكفر باعتقاده حلّ هذه المحرمات بعد علمه بالنصوص القطعية الصريحة في تحريمها لكونه مكذباً لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ، ولذا يكفر حتى ولو لم يقع في شيء من هذه المعاصي. وهو بهذا الاستحلال شرٌ ممن وقع فيها غير معتقد لحلها. ومن هنا فإن من اللوازم الباطلة التي حملتموها فتوى الشيخ وهي لا تستلزمها قولكم: إن الشيخ يكفِّر العاملين والعاملات في البيئة المختلطة بمجرد وقوعهم في الاختلاط الذي يحرمه الشيخ، أو أنه يكفر كثيراً من البيوت التي يحصل فيها اختلاط بين الخادمات ورجال البيوت. والشيخ إنما عنى بالكفير من استحل هذا المحرم لا من فعله في ذهول عن قضية الاستحلال. على أن العلماء لا يزالون يفرقون بين إطلاق التكفير (تكفير المطلق) وتكفير الأعيان، فإذا قالوا : من فعل كذا فهو كافر لا يلزم منه أن يكفر أعيان الذين يفعلونه؛ إلا بتحقق شروطٍ أوصلها بعضهم إلى سبعة، من أشهرها قيام الحجة، وكونه مختاراً لا مكرهاً..إلخ، ولأجل هذا جعلوا تكفير المعين للقاضي، أو ولي الأمر. هو: اعذرني إن بقي في نفسي شيء من الفتوى حتى بعد هذا التوضيح كله! ما زلت أرى فيها نزعة تكفير غير مسبوقة؟ صاحبه: أخي الفاضل: ما يصح هنا، وهو الذي ينبغي أن يصمد إليه الاستدراك والنقد لهذه الفتوى هو ما تحتمله من خطورةٍ من حيث إسقاطاتها والتخوف من توظيفها فيما هو أوسع من دلالتها، فإن كنت تعني هذا دون أن تتهم الشيخ بأنه يكفر بالجملة وبالمعاصي كما الخوارج، فأنا إذن في وفاق معك، بل وأتقبل منك ما هو قريب من هذا ما دمت لم تحمِّل الفتوى ما لا تحتمل، ولم تنسب للشيخ ما لم يقل، ولم تَبنِ عليها لوازم موهومة غير لازمة لها في الحقيقة. وأزيدك من هذا الباب ما كان الأولى أن يتوجه إليه نقدك دون تلك التشغيبات الخاطئة، وهو أن كل عاقل يدرك ما للفتوى العامة من خطورة في هذا العصر من حيث انتشارها في الآفاق، فهي كثيراً ما تبلغ العامة والجهلة قبل العلماء وطلبة العلم، وأكثر الفتاوى اليوم تصبح فتاوى عامة ولو كانت بين مفتٍ وسائل ما دامت الواسطة بينهما وسيلة من وسائل التقنية الحديثة. وأقول دون مواربة: إن لفتوى الشيخ تبعاتها الخطيرة وإن لم يُردها وتبرأ منها، وسيكون لها اسقاطاتها الخطيرة وتوظيفها فيما هو أبعد من دلالتها؛ لا سيما في هذا الزمن الذي بُلي الناس فيه بتيارات متضادة متطرفة ما بين مستخف بالدماء ومستخف بالشريعة. وكما أخطأت أنت في فهم الفتوى على غير سياقها، فجعلتَها تكفِّر كل من وقع في اختلاط في ميادين العمل والتعليم، فلا نأمن أن يخطئ غيرك هذا الخطأ، فيستبيح بها دماء معصومة. وما دامت قد نُشرت، فستبقى باباً مشرعاً يلج منه سفهاءُ الأحلام لاستباحة الدماء بأدنى الحيل والشُبَه، ولحسم الخلاف مع المخالف بالمسارعة بتكفيره أولاً، ثم تأتي الطوام: الاعتداءات والاغتيالات! ومَن مِن العامة غير المتخصصين في علوم الشريعة يدرك هذا الفرق بين استباحة المنكر وفعلِه؟ ربما كثير منهم لم يسمع بهذا من قبل. إن ثمة فرقاً بين التقعيد والتأصيل لهذا في بطون الكتب حيث تبعد فيها الاسقاطات على الواقع والتوظيف، وبين إطلاق ذلك في فتوى عامة تطير كل مطار، فيُسقطها متعالم حدث السن على واقع لا يتحقق فيه مناطها. وأقل ما فيها أنها ستُتخذ سلاحاً يُشهره (بعض) طلبة العلم في وجه كل مخالف في صورة من صور الاختلاط؛ لتُختصر بها المسافات من محاولة الإقناع بالحجة إلى الإرهاب بالتكفير. ومن اتخذ الإرهاب الفكري سلاحاً بديلاً عن الإقناع بالحجة والبرهان، فهو يفتح على نفسه باب التهمة بضعف الحجة؛ وإلا فمَن مِن المخالفين في شأن الاختلاط قال بجواز الاختلاط المتضمن لزاماً للمحرمات المجمع عليها؟ د. سامي الماجد