على مدى العقد الماضي، ساعد توفر المعلومات واسعة النطاق والتكنولوجيات الجديدة في تحقيق تكافؤ الفرص في الأسواق المالية أكثر من أي وقت مضى. لكن هنالك استثناء لهذا الاتجاه الإيجابي: حيث إن أسواق الأوراق المالية تعمل بهدوء، ولكن بصورة عجيبة، على زيادة الرسوم التي تفرضها على بيانات السوق وإمكانية الوصول للتعويض عن الانخفاضات الكبيرة في الحصة السوقية، في الوقت الذي تراجعت فيه إيرادات السماسرة والمتخصصين وصناع السوق وغيرهم من المستخدمين الآخرين لخدمات البورصة. النتيجة هي أن أسواق البورصة تجعل التداول أكثر تكلفة، وهذا يضر بالمستثمرين. الأرقام تروي لنا القصة: إجمالي الإيرادات الفصلية لمجموعات بورصات الأسهم الأمريكية الرئيسية (الأسواق العالمية باتس، وبورصة إنتركونتيننتال، التي تمتلك بورصة نيويورك وغيرها من أسواق العقود الآجلة والخيارات، وناسداك) نمت بنسبة تقارب 16 بالمائة في الفصل الأول من عام 2010 حتى الفصل الثالث من عام 2015، لتصل إلى 1.8 مليار دولار من أصل 1.5 مليار دولار. بالغوص أعمق، ازدادت إيرادات البيانات والتكنولوجيا لأسواق البورصة بنسبة 62 بالمائة. حصل هذا في الوقت الذي تراجعت فيه إيرادات التداول للعملاء بشكل حاد. بالنسبة لما يسمى بمقدمي السيولة، التي تشمل صناع السوق والوكلاء، كان الانخفاض حادا: بنسبة 75 بالمائة. انخفضت العمولات التي يتم دفعها من قبل صناديق إدارة الأموال الكبرى لتداول الأسهم بالنيابة عنها بنسبة 20 بالمائة، وتقلصت إيرادات تداول الأسهم لأكبر المصارف والسماسرة بنسبة 29 بالمائة. لسوء الحظ، لم يكن أمام المشاركين في السوق أي خيار سوى دفع رسوم البورصات الآخذة بالتزايد مقابل البيانات وإمكانية الوصول، والتي من دونها قد لا يكون لدى المتداولين المعلومات الأكثر حداثة، وقد يجد السماسرة أنفسهم وهم يخالفون قواعد التنفيذ الأفضل التي وضعتها هيئة الأوراق المالية والبورصات. وحيث إن الهوامش التشغيلية أصبحت أكبر من ضعف كثير من هوامش عملاء السماسرة وصناع السوق، تبدو البورصات بأنها تستفيد من هذا الموقع المحمي. حتى نفهم السبب في مواصلة المستثمرين التعرض للضرر جراء ارتفاع الرسوم، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار بالضبط الكيفية التي تجمع من خلالها البورصات أموالها. باستثناء الإدراجات، يوجد لدى أسواق الأسهم أساسا مصدران من مصادر الدخل الرئيسية: الرسوم التي تتقاضاها للتوفيق بين المشترين والبائعين، والرسوم التي تتقاضاها مقابل توفير البيانات وإمكانية الوصول للأسواق. من الناحية التاريخية، كانت إيرادات التداول كبيرة وموثقة. لكن خلال السنوات الأخيرة أدى ظهور أماكن التجارة الإلكترونية الجديدة إلى إيجاد سوق تنافسية للغاية، ما أعطى المستثمرين خيارات أكثر، وفروقا أقل بين أسعار العرض والبيع، وتسعيرا أكثر جاذبية وتنفيذا أفضل. كان الأثر عجيبا، قبل عقد من الزمن، كانت أكبر سوق بورصة في الولاياتالمتحدة، بورصة نيويورك، تسير معاملات حوالي 80 بالمائة من التداولات لشركاتها المدرجة. اليوم، انخفضت هذه الحصة إلى حوالي 20 بالمائة. لدى مؤشر ناسداك، سوق البورصة المنفرد الأكبر اليوم، حصة سوقية في جميع أنواع الأسهم تبلغ حوالي 15 بالمائة، في الوقت الذي تمتلك فيه أكبر مجموعة بورصات، إنتركونتيننتال، حصة بقيمة 24 بالمائة فقط. بمواجهتها لتراجع في الحجم والإيرادات، سعت البورصات إلى التعويض عن هذه الأعمال المفقودة. وهنا حيث يظهر أثر المصدر الثاني للإيرادات - الرسوم التي تفرضها مقابل بيانات السوق وإمكانية الوصول. مارست البورصات وبشكل متزايد سيطرتها على بيانات السوق، مما أدى إلى الضغط على المشاركين في السوق عن طريق المطالبة برسوم أعلى بشكل تدريجي. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الأسواق من الناحية العملية على توفير إمكانية وصول تفضيلية للذين يوافقون على دفع ثمن المنتجات المخصصة الأغلى أو الأسرع. تسبب هذه الاستراتيجية في الضرر للمستثمرين والسوق ككل. ذلك أن زيادة الرسوم على البيانات وإمكانية الوصول سترغم الوسطاء (صناع السوق والسماسرة) على استرداد تكاليفهم عن طريق توسيع عروض الأسعار وزيادة العمولات. كما أن ارتفاع الرسوم سيرغم أيضا اللاعبين الصغار على الخروج، مما يجعل إيجاد السيولة أصعب ويرفع تكاليف التداول على الجميع. لماذا يوجد هذا الاحتكار للبيانات؟ إنه من بقايا التنظيمات الحكومية التي عفا عليها الزمن. كانت أسواق الأسهم تعتبر في الماضي مرافق تؤدي خدمة للصالح العام، موجودة كأماكن يلتقي فيها المشترون والبائعون. ومن خلال دورها كمرافق عامة، مُنحت البورصات سيطرة من قبل الحكومة بخصوص جمع وبيع بعض بيانات السوق، بما في ذلك عروض الأسعار والطلبات والتداولات المنفذة. حتى بعد أن تحولت البورصات إلى مشاريع ومؤسسات هادفة للربح في أوائل القرن الحالي، بقيت سيطرتها على مبيعات البيانات على حالها. وفي حين أن البورصات أسيرة القواعد التي تُلزِمها بتقديم أفضل تنفيذ ممكن للمشترين والبائعين، يستطيع السماسرة وصناع السوق تخصيص جزء من طلباتهم المحدودة لصالح البورصات المتنافسة (وهذا يفسر التراجع في الحصص السوقية للبورصات). لكن لضمان توجيه طلبات السوق نحو البورصة التي تعرض السعر الأفضل، يحتاج السماسرة إلى شراء بيانات السوق من جميع البورصات، بغض النظر عن حجم التعاملات التجارية الأقل بشكل متزايد ورسوم البيانات وإمكانية الوصول الأعلى بشكل متزايد. كان المشاركون في السوق يحاربون هذا الوضع المضاد للتنافس منذ سنوات. إذ رفع كل من رابطة الأسواق المالية وصناعة البورصات وائتلاف من شركات الانترنت دعوى ضد البورصات في عام 2006. في عام 2013، طلبت محكمة الاستئناف الامريكية لمقاطعة كولومبيا من هيئة الأوراق المالية والبورصات أن تقوم بإعادة النظر في موافقتها على زيادات رسوم البيانات وتطلب من البورصات تبرير الارتفاع في الأسعار. منذ ذلك الحين، القضية في انتظار المراجعة من قبل المحكمة الإدارية الخاصة بهيئة الأوراق المالية. هنالك مساران للتقدم للأمام. المسار الأول هو الاستمرار في التقاضي بطيء الحركة، الذي يمكن مع ذلك أن يستغرق حله سنوات. أما المسار الثاني، الأفضل إلى الآن، فهو أن تعترف الهيئة ببساطة بما كان صحيحا لسنوات: حيث تعتبر الأسواق الآن شركات تستهدف الربح، والمنافسة الفاعلة ينبغي أن تحدث في كل أنحاء المؤسسة. إن لم يصبح تسعير بيانات السوق أكثر قدرة على التنافس بمفرده، ينبغي على هيئة الأوراق المالية والبورصات استخدام سلطتها لتُلزِم البورصات بالتنافس. طالما كانت الجهات التنظيمية تُلزِم المشاركين في السوق على شراء البيانات من البورصات، فيجدر بها أن تتأكد من أنه توجد عملية تهدف إلى تسعير البيانات بصورة تنافسية - أو على الأقل- لتحديد ما يراه الزبائن على أنه تسعير أكثر إنصافا. الكاتب هو المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة تاب، وهي شركة لأبحاث واستشارات الأسواق المالية.