"هنا ترقد الغاوية" نص حكائي لمحمد إقبال حرب في صبغته الاجتماعية يستوجب الرجوع إلى الثلاثية المقترحة من طرف الناقد فولفغانغ إيزر : الواقعي والتخييلي والخيالي. فالنص له خصوصية الاتصاف بالواقعية من حيث الموضوع، وسمة التخييل من حيث الجنس "إن النص الأدبي مزيج من الواقع وأنواع التخييل، لذلك فهو يُولِّدُ تفاعلا بين المعطى والمتخيَّل، ولأن هذا التفاعل يُنتج شيئا أكثر من الفارق بين المتخيل والواقع فيُستحسن تجنب التعارض القديم بينهما تماما واستبدال هذه الثنائية بثلاثية الواقعي والتخييلي والخيالي -1. إن العناصر الواقعية عندما يتم نقلها إلى النص تُصبح دلائل لشيء آخر، والفعل التخييلي فعل انتهاكي، الشيء الذي يربطه بما هو خيالي عند المتلقي فيندمج هذا الأخير ضمن استراتيجية مُبرمجة حوَّلت الواقع إلى دليل يدين تاريخه وناسه. - فما الواقع الذي خضع لفعل التخييل عند الكاتب محمد إقبال حرب، وصار دليلا يدين تاريخه وناسه؟ العنوان: "هنا ترقد الغاوية" مُرسَلة لغوية خصَّها الكاتب بعناية مضاعفة. فعلى المستوى الجمالي يتميز بالأناقة والجاذبية في طرحه قضية الوجع الإنساني، وعلى المستوى الدلالي يتميز بالكثافة والإيحاء. فالغاوية تُقال لقِربة الماء، إحالة الى النص المسرود فهو وعْد بنص زاخر، يبعث على الدهشة الجمالية، وأيضا الغاوية صفة لامرأة فاتنة منقادة للهوى، لتكون النتيجة أن الغاوية هي الغانية التي يستميلها المديح، وهي الخاطئة كما جاء على لسان صابرين نفسها، المتهمة بالفجور والغواية قالت في نص الغلاف الذي انتقاه الكاتب تُمهيدا لقصدية النص، ولمنح السرد جاذبية القراءة : ".. أخاف أن أموت فيَكتب الناس على قبري : (هنا ترقد الغاوية) غاوية تحيك حبال غيِّها كالأرملة السوداء، لا بل سيكتبون : (هنا ترقد الخاطئة) نعم ... لن يكتبها شخص واحد، بل كلهم سيكتبون معه بإفكهم ". لوحة الغلاف : إن أبرز ظهور على الغلاف هو دوامة حمراء وأمواج البحر الفاصل بين حضارتين، العريقة بِعُرْفها الظَّالم والحديثة بطبيعتها المُنصِفة، وقد امتزج في لوحة الرواية الأحمر والأصفر والبرتقالي، مع هيمنة كلية للأسود الذي يشكل أرضية لوحة الغلاف. فالأحمر مضاعف الدلالة، لون الرقابة والقمع، ولون إغرائي أيضا، حضوره يُشكِّل هيمنة على غيره من الألوان، وفي المقابل فإن للأسود دلالة رمزية أنثوية. ليتَبيَّن لنا أن الرواية أنثى، بطلتها أنثى، والتهمة أنثى وهي الغواية، لكن شاءت المصادفة أن تكون الضحية وحدها مذكرا وهو الشرف. الواقعي والتخييلي والخيالي في بناء النص الروائي نسجت مخيلة الكاتب عالماً سردياً يلتقي فيه المتخيل بالواقعي، فالواقعي: من حيث كونها قصة عنف جسدي، ما عبَّر عنه الكاتب في حديث له عن الرواية قال : "هناك بين السطور حكاية غواية دون إغراء، ألم وعذاب لم تأمر به السماء، عبودية أنثى عشقها الشرق فاستلذ ساديتها. إنها قصة جريمة العار التي تنهش الشرق منذ قرون طوال"، حيث ألمح بقوله : هذا إلى تفريعات البعد الواقعي الاجتماعية والسياسية، وأعطى لمخيلة القارئ تأويلاً متسقا. ثم البعد الميتافيزيقي الجمالي للمسرود، أو مستوى التخييل في الخطاب الروائي الذي يعمل لإرضاء فضول المتلقي وفتح باب التوقعات، ويتبدَّى من جهة في سلوك صابرين وحديثها مع وعن الأشباح، ومن جهة ثانية من خلال مزج تصوير الواقع بالبعد الرمزي بتوظيف عبارات في العناوين الفرعية، مثل عبارة "الانقضاض" في إحالة على الحيوان تحت سلطة غرائزه، وعبارة "يا بحر" نداءُ الصمتِ والغياب. هذا أحد أنماط السرد، برؤية سردية يتحكم من خلالها السارد في شخصياته، معلناً استراتيجيته في إدانة الظاهرة. ثم البعد الخيالي، وهو الشطر الخاص بالمسرود له لكن، يبقى بإيعاز من السارد، لأن الغاية هي تفعيل دور الرواية كعمل أدبي له وظيفة في حياة الإنسان اليومية، واستدعاء دليل ضرورة إدانة دعاة العرف. حاول محمد إقبال - في ركن من البناء الروائي - أن يطلعنا على الجانب الواقعي للقصة، بإحالته على أن رسالة صابرين لأخيها تامر تُخبره بحادث محاولة اغتصابها من طرف حودة اليتيم هي رسالة حقيقية، ثم عاد ليمتطي دروب الإيهام لمضاعفة متعة قارئه. إِنَّه يكتب بوعي نظري استثمر في فعله التخييلي هذه الحقيقة وما تداوله الإعلام في السنوات الأخيرة من ارتفاع نسبة الاغتصاب الشيء الذي فضحته الثورات العربية، فالرواية حديثة الصدور 2014، معناه أنها معاصرة لكل الأحداث، وصابرين، أيقونة المقاومة الممزوجة بالخوف، هي على المرجَّح امرأة، وقد تكون أيضا مصر البلد، أو ليبيا أو سوريا أو فلسطين المغتصبة، والإحساس بتواطؤ حماتها مع الآخر، هو الدافع إلى الفعل التخييلي للكتابة. حرص المؤلف على ترتيب الأحداث وفق فصول أو مقاطع، وضِعتْ لها عناوين مثل القصص القصيرة تسعف في سرد الأحداث تماشيا مع مقتضيات البناء العام، آخرها "قبل الرحيل" وأولها معنون ب "معبد منسي" الذي يعني على مستوى الدلالة الانحراف عن حقيقة الوجود الإنساني، ويحمل في طياته تخريجة الرواية ونهايتها، كإحالته على "جنازة الغائب" في صلاة صابرين على موت أخيها. وقد نسج الكاتب المقطع الأول على شكل ترسيمة لفصول حكاية، شخصيتها الرئيسية آدم أو غسان الذي سيضع نهاية للرواية بموته، ولمعاناة صابرين. يغامر الكاتب في محطات عديدة أنْ جعل الأحداث المحرك الرئيس للشخصيات، يتصدى للحدث ويُسْهِب في تفاصيله، ليعطي مساحة واسعة للخيال لتَمثُّل الأماكن ووضعيات الشخصيات، ثم تظهر في الأفق الشخصية التي كانت مادة للحدث لا صانعة له ليُفاجئ قارئه بغير المتوقع، وكأنه يحرِص على منح صابرين أيقونة الرواية، أحقية صنع الحدث النهائي، وهي صانعته بامتياز، فخلال لحظات انهيارها يُصاب القارئ بنوع من القلق أو الهذيان الفكري، ويتشوَّف لحل لغز خيالاتها قبل السارد. شخوص الرواية تتكامل فيما بينها، مثل صابرين وأمل اللتين تحملان وزر الغواية، فقط صابرين أفلتت وأمل أُعْدِمت، وهنادي التي ينساب السرد من خلالها مستغلاً استيطيقيتها الجميلة في شدِّ انتباه المسرود له. أما آدم وتامر فهما الرجلان الشرقيان غير المتورطين والمتأكدان من براءة المرأة، لكنه سلبي. لعلنا نستنتج سمة المضاعفة في أسماء الشخصيات، فآدم وغسان شخصية واحدة، صابرين وقصائد أيضا شخصية واحدة، غسان وقصائد أسماء للماضي المفعم بالشباب، أما آدم وصابرين فهما الإنسان في دلالته الكونية، وهنادي هي الحياة في كل تمظهراتها، والطبيب النفسي الأمريكي المعالج لصابرين، يمثل الآخر في احترامه للخصوصيات الذاتية للأفراد، ثم حسام الشخصية المضاعفة في ذاتها، الشر الآتي من الماضي في ملاحقته آثار الشريفات، والحاضر المكرِّس لرجعية الماضي ليعلن في السر والعلن أن المرأة زانية، وهو كذلك الوهم الذي صنعته صابرين ومنحته صفة وجعلت نهاية معاناتها مرهونة بنهاية عمره. إن لقاء صابرين مع حسام لم يكن حقيقة بقدر ما هي مادة توليدية للنص، فالحالة النفسية لصابرين هي التي أوحت للكاتب بالعقدة أو الأزمة النهائية لمعاناتها. إنه الوهم، توقَّعته نفسها المجروحة في كل حين وتصورته في كل مكان، حتى في علاقات المحيطين بها مع العالم الخارجي الذي يخيفها. هو نفسه الوهم الذي دبَّر موت أخيها تامر، تلك الشحنة السلبية التي نقلتها له ولازمته وأبقته حبيس وخز الضمير، والتردُّدِ بين الكائن وما يجب أن يكون حتى أودت بحياته. وقد أعلنت بداية انتصارها على وهمها حين قالت : " أخيرا تخلصتُ من تهديدك ووعيدك، لكن الذئب لا يزال ينتظر...". وما هذيانها بعدما أرداه آدم قتيلا إلا متنفسا وذريعة لتُجيب نفسها تساؤلاتها القهرية. الفضاء والزمن : دعانا النص - على متن الذاكرة - إلى حضرة عوالم متعددة، مصر ولبنان، ما جعل بنية الزمن غير متطابقة مع سير الأحداث فقد سجلت لحظات استرجاع لوقائع كانت سابقة لزمن السرد. إن الفضاء السردي للرواية يعرف نوعا من التشظي بين مصر ولبنان، والولايات الممتدة الأطراف والمتباعدة في أمريكا، حيث لحظات قطْع مسافاتها كانت ماتعة تَعرَّفْنا فيها عما يخالج بعض الشخصيات. لكن الفضاء المحوري كان هو "ملحق" فيلا آدم الذي ستسكنه هنادي، وسيستوعب الحدث في كليته، فيعرِّي أنواع العلاقات، ويختم المعاناة، إنه الملحق الذي تَردَّد ذكره ولم يكن اقتراحه كمكون حكائي اعتباطيا، فقد أُلحِقت به الشخصيات على التوالي، كما أُلحِق الماضي بالحاضر، والأحداث وأيضا الرؤية السردية للراوي المتحكم في كل شيء وكأنه مخرج على خشبة المسرح يتحكم من زاوية نظره " هذا الفضاء مُحَوَّلً إلى كُلِّ، إنه واحد، وواحد فقط، مراقَب بواسطة وجهة النَّظَرِ الوحيدة للكاتب التي تهيمن على مجموع الخطاب بحيث يكون المؤلَّفُ بكامله مُتَجَمِّعا في نقطة واحدة، وكل الخطوط تتجمع في العمق، حيث يقبع الكاتب". انتقى الكاتب من الواقع جناية ليحاربها من زاويته، وفق سياق تخييلي كدليل عليها ثُمَّ ختم بالمشهد المسرحي الدرامي داخل الفضاء المحوري "الملحق". الخلاصة: الهدف من اختيار الاشتغال على ثلاثية الواقعي والتخييلي والخيالي في قراءة "هنا ترقد الغاوية" كانت من أجل الوقوف على العنصر التخييلي للنص. فالاغتصاب، واحد من محن متعددة لا تزال تعيشها المرأة، ولعل انتقاءها من بين العديد من مظاهر التخلف، وإعادة صياغتها في قالب سردي تخييلي صَنع منها دليلاً يدين فاعليه والساكتين عنه، وتاريخهم وأعرافهم وتقاليدهم، كما نصَّب الرواية مقاما أدبيا مميزا، وصنَّفها إنتاجاً سردياً يرتقي بالعمل الروائي إلى مستوى القدرة على الإسهام إبداعيا في تقويم اعوجاج السلوكيات والممارسات البشرية. فالمبدع يعلن وجوده من خلال اشتغاله بالعالم الرمزي في بناء كينونة أفضل للإنسان، ومجال الخيال وحده يساعدنا على الوعي به وبناء تصور لإسقاطه كسلوك غير عادل.