يستعد العالم الآن الانتقال من التنمية التقليدية إلى التنمية المستدامة بهدف تطوير المجتمع وتحسين اقتصاد الشعوب والدول دون الإضرار بالبيئة الحية (الإنسان والحيوان والنبات...) وغير الحية (الهواء والتربة والماء والطبيعة...)، مع شرط مراعاة الحاضر وأجيال المستقبل، وقد دخلت السعودية في هذا التحدي في وقت مبكر من إطلاق المبادرة الدولية، وبدأت تحقق الآن إنجازات على أرض الواقع. لذلك ارتبطت الثقافة البيئية بالتنمية المستدامة من هذا التنوع الواسع الذي يحقق جودة الحياة ويفعّل دور البيئة والاقتصاد والمجتمع، وهي بذلك تستهدف تنمية الاقتصاد، وتوسع أفق التفكير والتخطيط الاستراتيجي ليشمل سلامة البيئة ومستقبل الأجيال، وتحفّز بدائل الحلول التقليدية. وتتمركز التنمية المستدامة حول ثلاثة أبعاد هي: المحافظة على البعد البيئي بشقيه الحي وغير الحي، وتنمية البعد الاقتصادي بالابتكار والإبداع بما يحقق أرباحاً ولا يضر البيئة، ودعم البعد الاجتماعي بالعدالة والتمكين. وما نعيشه الآن من التعامل مع البيئة نتاج تاريخ طويل تطورت فيه علاقة الإنسان ببيئته الحية وغير الحية؛ إذ بدأ بتقديس أنواع من الحيوانات والأشجار والشمس والقمر وتأليهها، فقد ألّهت القطط في المعابد، ثم ربيت في المنازل، ثم قذف بها في الشوارع. كما أشار القرآن الكريم إلى قصة إبراهيم عليه السلام مع عبادة الطبيعة بعبارات فيها تدرج مع البيئة غير الحية وصولاً إلى الوحدانية. وقد كانت الحياة البرية والبحرية مهددة بسبب الاستهلاك الجائر للمياه الجوفية والصيد والاحتطاب... وتُظهر الرسومات الصخرية الثمودية مؤشرات على اختفاء سلالات من الحيوانات كانت تزخر بها بلادنا، وتؤكد تجارب التاريخ الحديث على وجود حالات انتهاك لحقوق صيد الحيوانات والطيور المهاجرة واقتلاع الجبال لمصلحة المصانع ودفن الأودية من أجل التخطيط الحضري. وكان صوت الثقافة البيئية وأنظمتها خافتًا في المجتمع السعودي أمام الواقع. وما نزال نواجه مشكلات عامة مثل تصاعد التلوث وقرب المصانع من المدن، وتخطيط المدن لخدمة السيارات وحرائق الغابات في الجنوب. وإذا اعتدنا فيما مضى على أن تسبق الأقوال الأفعال؛ فإن حالة التنمية المستدامة عكست المعادلة، وسبقت الإنجازات التنظير الفلسفي والثقافي، رغم أهمية التنظير؛ لأن مبدأ نشر ثقافة التنمية المستدامة بأبعادها ومعاييرها الجديدة يسهّل من تحويلها إلى ثقافة مجتمع وسلوك شعبي موجه. ثم كلما ازداد الإنسان وعيًا وعلمًا تتغير علاقته بالبيئة إلى محاولة للفهم والتفسير، وقد بدأت مرحلة فهم البيئة بطرق عقلانية وتفكير منطقي مع فلاسفة اليونان ثم الفلاسفة العرب. ثم انتقلت البشرية إلى مرحلة جديدة بعد قدرة الإنسان على قهر البيئة الحية واستخدامها لمصالحه في التجارب الطبية والغذائية والصناعية، ثم وصلت المهددات بعمليات الاستنساخ والتحرير الجيني، وهي أخطر مراحل تهديد البيئة الحية، ثم وصلنا الآن للمرحلة النبيلة التي تؤمن بتعايش الإنسان مع بيئته وحمايتها وتقنين حقوقها. ظهر الشعور بحقوق البيئة والدعوات الفلسفية لاحترامها بعد تفاقم التحديات البيئية وتهديد وجود الإنسان؛ لذلك برزت المبادرات الدولية لحماية البيئة بإصدار الأنظمة والقوانين وإيقاظ أخلاقيات البحث العلمي وحماية حقوق الأجيال المستقبلية، لتحقيق التكامل البيئي. واحترام البيئة يبدأ من فهمها ومعرفة مكوناتها ودورها التشاركي وتحويلها إلى ثقافة شعبية ومؤسسية عامة وممارسة يومية اعتيادية، من أجل المساهمة في حمايتها، وبناء وعي ثقافي حولها، وإدراك المخاطر التي تتعرض لها. إن التراث العربي والإسلامي والشعبي مفعم بقيم شكلت عادات الناس وتقاليدهم نحو احترام الطبيعة بما فيها من حيوانات وطيور وحشرات نافعة ومياه وتربة وهواء... والحفاظ على التراث الاجتماعي والآثار القديمة للشعوب التي سكنت المنطقة. ومن تقاليد الثقافة العربية في العصور الإسلامية الكتابة عن البيئة، ثم أهملت عربيًا، وانتقل ازدهارها في أوروبا في العصر الحديث، وما تزال الكتابة الثقافية والفلسفية العربية عنها ضئيلة. ومن أبرز المؤلفات العربية كتاب «مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء» لمحمد بن أحمد التميمي المقدسي (من أهل القرن الرابع الهجري) الذي عالج فيه مشكلات التلوث البيئي في زمن مبكر جدًا. وصدر «ثلاث رسائل أندلسية في الطاعون الجارف» (1993) لثلاثة أطباء أندلسيين عن الوباء الذي أصاب أوروبا، والواقع أنه أصاب معها الأندلس والمغرب العربي أيضًا بنفس المستوى، ولكنه اختزل في أوروبا وعرف بالطاعون الكبير (749ه/ 1348م)، والرسائل هي «مقنعة السائل عن المرض الهائل» لابن الخطيب، و»تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد» لابن خاتمة، و»النصيحة الشقورية» لأبي عبدالله الشقوري الأندلسي، وكلهم أطباء أندلسيون شخصوا الوباء في حينه، وبعدما كشفوا سر انتشاره دعوا إلى الحجر الصحي، وأسسوا لعلم الوبائيات بشكل منهجي منظم مبني على تجارب حية. وبرز في العصر الحديث فلاسفة البيئة، ومن أبرزهم هانز يوناس الذي أكد على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الأكثر وعيًا، وهذا يفرض عليه الالتزام الأخلاقي تجاه الطبيعة وتجاه الاجيال المقبلة. كما كتب آرني نيس نظرية البيئة العميقة ضد البيئة الضحلة أو الإيكيولوجيا العميقة Deep Ecology ضد الإيكيولوجيا الضحلة، وهي واحدة من أهم المقالات البيئية، ويركز جوهرها الرئيس على أنه ينبغي احترام كل من يعيش في البيئة من إنسان وحيوان ونبات، من أجل ازدهار الحياة بغض النظر عن المكاسب النفعية للاستخدام البشري؛ وذلك بسبب تركز اهتمام البيئة الضحلة على الاهتمام بمكافحة التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية ورخاء الإنسان وصحته، أما البيئة العميقة فهي برنامج عمل مؤسس على ثمانية مبادئ، أهمها: * التأكيد على أن ثراء أشكال الحياة وتنوعها يشكلان قيماً في حد ذاتها، ويسهمان في ازدهار الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض. * ليس للإنسان الحق في تقليص هذا الثراء والتنوع، إلا في حدود احتياجاته الأساسية، وضرورة الحد من تدخل الإنسان في الكائنات غير الحية. * جودة الحياة تتطلب تغيراً في السياسات، مما سيؤثر بدوره على الاقتصاد والتقنية والإيديولوجيا. * احترام الحيوان بما في ذلك الطيور والحشرات، وعدم قتلها إلا إذا ثبت خطرها أو احتاج الإنسان لأكل شيء منها، والتشديد على استخدام أقصى ما يمكن لترك الحيوان ينظم نفسه. ثم توسعت دراسات فلسفة البيئة لتشمل الحشرات الضارة والنافعة، ويعتبر كتاب «الربيع الصامت» (1962) لراشيل كارسون من أهم التحذيرات العالمية التي لفتت الانتباه إلى خطورة مبيدات الرش الزراعية في الأرياف على الطيور والحشرات والتربة والمياه، وبالتالي تدمير كثير من الحياة البرية في أميركا، وحذّرت من أن الطيور لن تغرد في الربيع إذا استمر التدمير البيئي، وتحول كثير من تحذيراتها إلى برامج عمل مؤسسية. وللفيلسوف الأميركي بول دبليو تايلور كتاب «احترام الطبيعة: نظرية الأخلاق البيئية»، عزّز فيه مبدأ أخلاقيات البيئة، وتكمن نظريته في انتقاد الإنسان الذي يدعي التفوق والهيمنة على البيئة، نظراً لامتلاكه مهارة اتخاذ القرار، ويرى أن هذا المبدأ لا يخوّله الحق في التلاعب بمصير البيئة، ويطالب بصدور نظام أخلاقي يحترم الكائنات الحية التي تشارك الإنسان في الحياة على الأرض. ويؤكد على ضبط السلوك الإنساني تجاه الكائنات الحية غير البشرية بعدم الإيذاء وعدم كسر الثقة التي يضعها فينا الحيوان بخداعه. وأصبحت المسألة البيئية تشكل معظم النقاشات والحوارات العلمية في التاريخ، وتشكل أهم ملفات السياسة والإعلام في العصر الحديث؛ وذلك بسبب ظهور النتائج الكارثية التي يتسبب بها الإنسان في تدمير البيئة بجميع مكوناتها، وبعدما أصبح الاقتصاد والتخطيط الحضري مسألة مقدمة على سلامة البيئة الحية وغير الحية. والتنمية المستدامة تتحقق بالثقافة المجتمعية والوعي الشعبي، فكلما أدرك الإنسان مدى التصاقه الروحي بالبيئة والاقتصاد والمجتمع والأمن وحق الأجيال المستقبلية فيها، أسهم في حمايتها وتعزيزها، فهي تبدأ من الثقافة، ثم تتولى الأنظمة ترسيخها ودعمها. وتقوم رؤية 2030 السعودية بدور كبير وفاعل وغير مسبوق في إنشاء الهيئات والمحميات وإصدار الأنظمة لحماية البيئة والشرطة البيئية وتشجيع المدن النظيفة وتقديم نموذج خلاق للعالم. وتم تخصيص مناطق محمية ضخمة للحفاظ على التنوع البيولوجي وضمان مستقبل مستدام والحفاظ على الحياة في البر وحماية النظم البيئية «الإيكيولوجية» وإدارة الغابات ومكافحة التصحر ووقف تدهور الأراضي. وتشكل المحميات المنتشرة في المملكة 13 % من المناطق البرية والبحرية، وصدر معها نظام حماية البيئة وإطلاق مبادرات ودعم إنشاء الجمعيات المعنية بها، تجسيدًا حيًا لصون الأرض. ويتطلب اكتمال منظومة الاهتمام بالبيئة بدعم الدراسات والمقالات وتصميم المناهج الدراسية حولها ونشرها كثقافة عامة وحديث للناس العاديين؛ وذلك لأن الممارسات الفعالة والقوانين الإيجابية لا تكفي وحدها ما لم تحمل معها الفكر الفلسفي والأخلاقي، ثم تتحول إلى ممارسات اعتيادية في الثقافة اليومية، ومن ثم تكون الثقافة الاجتماعية من أهم وسائل حماية البيئة بالوعي بملحقي الضرر بالبيئة وتوجيه النظرات الدونية لهم. والبيئة في مجملها تشكل التوازن بين جميع الكائنات التي تتشارك العيش فيها، وإذا اعتدى طرف على حقوق طرف فإن ذلك يعني بالضرورة اختلال التوازن البيئي؛ مما يلحق الضرر بجميع أطراف البيئة. ومع اتجاه الدولة الآن إلى حماية البيئة ودعم مبادرة «السعودية الخضراء»، فإن التكامل يتطلب إضافة عنصرين، هما: الأول دعم الدراسات والمقالات والمنتج الفني والإعلامي لنشر ثقافة البيئة، والثاني إجراء دراسات جدوى بيئية على مواقع المناجم الجديدة والمصانع الكبيرة مهما كان موقعها مع مراعاة تأثيرها على المياه والتربة والطيور والهواء؛ لارتباط جودة الحياة وكفاءة إنتاجية العمل بالصحة العامة والتكامل البيئي. «الرياض الخضراء» لونت محاور العاصمة د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير