شركة أرامكو هائلة، وطرحها يتطلب ترتيبات منوعة، ولا يبدو أن امتياز الاستخراج سيكون ضمن الطرح، فما تحت الأرض من ثروات تملكه الحكومة، ويستغل بشروط قد تتغير وتُعدل مع مرور شرائح زمنية وبمقابل مالي. لكن النقطة الأساس هنا أن برنامج التحول الوطني قد يعني في شقه الاقتصادي توجهاً تاماً للقطاع الخاص، بحيث لا تمارس الحكومة أية أنشطة اقتصادية بوسع القطاع الخاص القيام بها، وهكذا فإن الطرح سيُدخل شركة أرامكو دوحة القطاع الخاص، لينهي بذلك تصنيفها باعتبارها ركيزة القطاع العام السعودي. كما يبدو أن الإشارة الضمنية في هذا السياق، أن مع طرح أرامكو للاكتتاب فإن أي مؤسسة أخرى لديها تدفقات مالية وتقوم بوظيفة اقتصادية ستنتقل لصفوف القطاع الخاص. إذاً يبدو أنه تحولٌ كامل للسعي لتحقيق الكفاءة وتوليد القيمة المضافة. والكفاءة لن تتحقق فقط بوضع مؤشرات أداء (KPIs)، سواء أكان عددها 550 مؤشرا، كما أعلن في ورشة عمل برنامج التحول الاقتصادي، أم أضعاف ذلك. فعلى الرغم من أهمية قياس الأداء، إلا أن المقياس الأهم لكفاءة الأنشطة الاقتصادية إجمالاً تحقيقها لربح متواصل، فذلك هو مؤشر القابلية للاستدامة، باعتبار أن الوحدة الاقتصادية تولد قيمةً تفوق ما استهلكتهُ من موارد، وهذه هي المعادلة الأساسية لقياس الإنتاجية: مخرجات تقسيم مدخلات، فإن كان الناتج يفوق الواحد الصحيح فثمة قيمة مضافة. هذه المعادلة البسيطة، بالإمكان تطبيقها على العديد من المنشآت التي تمارس وظائف حرجة الأهمية لكنها ما برحت خارج قياس القيمة المضافة، وتحديداً أرباحاً، خذ مثلاً مؤسسة تحلية المياه، التي تقوم بوظيفة بالغة الأهمية بتوفيرها للماء والكهرباء، ولكن ليس واضحاً هل هي تحقق ربحاً نتيجةً لممارستها أعمالها، وقد فطنت الحكومة الموقرة لقابلية المؤسسة للخصخصة منذ سنوات، ولعلها تنتقل لدوحة القطاع الخاص قريباً، إذ سيكون لذلك تأثير كبير على قطاع التحلية إجمالاً؛ فبالإضافة لتوفير المياه المحلاة وتوليد الكهرباء بكفاءة متزايدة (أي بتكلفة أقل)، فسيتيح الفرصة للإبداع وتوسيع الأعمال لتتجاوز حدود المملكة على سبيل المثال، إذ سيصبح هدف الشركة (أو الشركات) ليس فقط تلبية الطلب على الماء المحلى بل كذلك تحقيق ربح، وبالتأكيد ستكتمل حلقة تحسين الكفاءة مع إذكاء المنافسة، ليوجد أكثر من منتج للمياه المحلاة. الأمثلة كثيرة ولا حاجة لجلب المزيد؛ لبيان النقطة الجوهرية والمختلفة نوعاً؛ وهي أننا أمام طريقة مختلفة لتحقيق النمو ولتمويل التنمية، طريقة تقوم على استخراج القيمة الكامنة من جوف اقتصادنا الوطني، من مزايا وفرص وقيمة، والتي سنجدها في كل منطقة وشاطئ وجبل وواد وجزيرة، وفي كل قطاعٍ دونما استثناء. وتوظيف هذه الفرص توظيفاً كفؤاً سيعني انتعاشاً للاقتصاد ورفاهاً للمواطن وازدهاراً لمؤشرات الخزانة العامة. بإيجاز، نحن أمام نموذج مختلف نوعاً، لا يقوم على بيع الموارد الطبيعية بل على تصنيعها من ناحية واجتراح مزايا تنافسية تقوم على الريادة والابتكار وعلى دافعية مواردنا البشرية وتحركها للإنتاج، كل هذا يحتاج "تحولاً" في نظرتنا للاقتصاد وتوقعاتنا منه ودورنا فيه، ولا بد من الإقرار أنه تحولٌ يتطلب تحقيقه إزاحة مفاهيم وتوقعات لتحل محلها مفاهيم وتوقعات أخرى، تقوم على توليد القيمة بالكد وليس باستخراجها من باطن الأرض بسهولة ودعةٍ، فتلك حقبة على وشك أن تودعنا. وهو تحول ضخم دون شك، فالعلامة الفارقة لبدايات مشوار التحول ذاك هو الإعلان عن النية في طرح شركة أرامكو للاكتتاب، فطرح بهذه الضخامة يستدعي للتفكر نقاطاً كثيرة، منها: ما الذي سيطرح كل الشركة أم أجزاء منها، ومن سيشارك في الاكتتاب الذي سيكون الأضخم، وكيف ستوظف حصيلة الطرح، وكيف سيكون دور الحكومة ونصيبها من الملكية، والحوكمة والشفافية في الشركة المطروحة، فقد يعني ذلك الطرح نهاية شركة النفط الوطنية الحكومية. ولتقريب ضخامة الطرح، فبفرض أن قيمة أرامكو 7 ترليونات دولار، وهناك من يقول إنها أعلى من ذلك بكثير، فإنه يكفي طرح 1% لتغطية عجز 2016، الذي تجاوز 300 مليار ريال. وللمقارنة، تزيد قليلاً قيمة شركة اكسون موبيل العملاقة عن 300 مليار دولار، وهي تملك عُشر الاحتياطيات المؤكدة لشركة أرامكو السعودية. أعود لصلب الموضوع لأقول إن أرامكو "دانة" الاقتصاد السعودي، لكن الرهان الأساس لقياس نجاح برنامج التحول الوطني يتمحور (أي يقوم ويقعد) ليس بتمكنه من خصخصة أنشطة ولا حتى تحريرها من الاحتكار، بل بتمكن برنامج التحول لرفع مستوى معيشة المواطن، هذا هو مربط الفرس، وهو المحصلة النهائية التي يعتد بها لقياس النجاح. وفيما يتصل بالطرح، فمستبعد أن يُباع امتياز الاستخراج، إذ أن بيعه يعني عملياً بيع الاحتياطي النفطي، ويبدو إن فكرة طرح أرامكو هي أحد بنود تمويل برنامج تحول الاقتصاد الوطني، وهنا تأتي الحاجة لتعريف البرنامج: هل هو برنامج للتحول الاقتصادي أم للخصخصة؟ فالتحول الاقتصادي أشمل، والتحول الوطني أشمل منهما. أن الخصخصة والتحول يمثلان مرتكزا للسوق المالية. وما دمنا نتحدث عن الاكتتاب، فالسؤال: هل سوقنا المالية قادرة وجاهزة؟ القضية ليست اجراءات ورقية بل صلات السوق بالاقتصاد وسياساته! وما يبرر تناول هذه النقطة، أن أرامكو ستطرح في سوق مالية هي أكبر منه أضعافاً مضاعفة! مما يعني أن سوقنا المالية أمام تحد هائل، فكيف ستتعامل معه بنجاح؟ أي س "تتحول" هي كذلك لتتمكن من القيام بمهامٍ جسام تنتظرها؟ فبالإمكانات الحالية لسوقنا نطلب من السمكةِ أن تبتلع حوتا أزرق!