تزخر مدينة جدة بعبق إسلامي وتاريخي عتيق، فهي بوابة الحرمين، ومحضن الحجاج والمعتمرين. وهذا التاريخ المشرق هو من شكّل جوهر هويتها. لقد زرت معرض جدة الدولي للكتاب لعام 1437ه، فوجدت حرصًا على إنجاح هذه التظاهرة الثقافية، إلا أن الاختلاط المشين كدّر صفوها، إذ ترى وقوف بعض الشباب والفتيات جنبًا إلى جنب في تبادل للابتسامات والضحكات وتعلوهن الزينة وسط طرقات المعرض التي ضاقت بالزائرين وفي أجنحة بعض العارضين! في أجواء هي أقرب للمجمعات التجارية منها إلى روح المكتبات، مما يشير إلى عدم وضوح الانسجام بين هذه المناظر، وبين هوية جدة بوابة الحرمين لكل أصقاع العالم الإسلامي. يمكن القول إن «العودة إلى الجذور والتديّن» هو الاتجاه السائد اليوم على مستوى العالم أفرادا ومجتمعات. ففي هذا العام، اتفق مركزا «بيو» وَ «جالوب» العالميين، وهما من أشهر مراكز الرصد والإحصاء في العالم، أن غالبية العالم اليوم يصفون أنفسهم بالمتدينين؛ هذا على مستوى الأفراد. أما على مستوى المجتمعات، فقد برزت مؤخرًا ظاهرة الديمقراطيات «التي تتضح فيها النزعة الدينية المسيحية» والتي تتربع اليوم على عرش كثير من الدول الغربية. وأبعد من ذلك، ما قام به أحد النقّاد المختصين بإصدار كتاب (سينما الإيمان) الذي حلّل فيه الإنتاجات السينمائية الكبرى من بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م وحتى عام 2015م، حيث رصد المضامين «الدينية» التي لم تكن بهذا الحجم من قبل! وتأسيسًا على ذلك، ينبغي أن نفخر بهويتنا وحضارتنا التي ساقت الأمم نحو الفضيلة والعلم والفنون على مدى ألف عام. وأن أبناء وبنات جدة اليوم هم أحفاد الصحابة روّاد هذه الحضارة. هذه هي هوية جدة، التي تنبثق من هوية بلادنا الغالية. إن ديننا ومظاهره كالحشمة والحياء، لا يمنعنا من اكتشاف المجرّات، والغوص في أعماق الأرض. كما أن هويتنا لا تعيق حضارة أو تنمية أو تعايشًا أو معرضًا للكتاب أو غيره؛ ويتعزَّز هذا الأمر حين تقود مملكتنا الحبيبة العالم الإسلامي ضد الغلو والفوضى الخلاّقة كما يعرفها صانعوها. فهل سنجد في نسخة العام القادم من معرض جدة الدولي للكتاب انفتاحًا منضبطًا، يضيف إلينا ولا يسلب منا؟