كثيرة هي السجالات التي خضناها في الأعوام الماضية حول أنجع السبل لمعالجة الطائفية. أثمرت بوضع إطار نظري لعلاج المسألة من جانب، وفشلت في تحويلها لقناعة عامة من جانب آخر. في الأسبوع الماضي دُعيت للمشاركةِ في حوارٍ مع مجموعة من المثقفين المهتمين بمعالجة الطائفية، حيث تم تناول تجربة تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وتداعياتها على المواطن العربي، وقد أخذ النقاش أبعاداً جديدة، أثبتت لي أن المسألة الطائفية أعقد مما نتصور، بل ونحتاج لزمن أطول للخروج منها. تشكلت لدى البعض عبر السنين قناعة راسخة أن التخلي عن الطائفية يعني ترك المذهب، وبما أن المذهب يحظى بقيمة عالية في مجتمعاتنا؛ لأنه أضحى "الإطار التوجيهي" الأول لسلوكيات البشر، والمحفّز الأهم على العمل الصالح، وعلى التمييز بين الخير والشر، فإن هذا "التخلي" يبدو ضرباً من الجنون. هذا الاعتقاد رغم تسيده في المجتمع، إلا أن ليس كل ما هو سائد صحيح، لكن معظم الناس اعتادت على أخذ الأمور كما هي دون تمحيص. ثمة فارق كبير وجوهري بين الانتماء لمذهبٍ ديني وبين الولاء للطائفة. فالمذهب يفهمُ الإنسانُ من خلالهِ دينه، ويسعى بواسطة وصاياه لإرضاء ربه، عن طريق الاتساق الروحي والبدني مع المعتقدات التي يترجمها المذهب على هيئة عبادات. أما الطائفة، فهي جماعة مُتخيلة، يشكل الانتماء لها انتماء عصبوياً، يقوم على تخيل الفرد لذاته كفرد في جماعة، يتشارك معها المصير نفسه، حتى لو لم يكن يعرف أفرادها، أو يفهم طبائعهم، أو يعلم نواياهم وتصرفاتهم، التي قد تكون مشينة في بعض لحظات الصراعات الطائفية، كما يحدث اليوم في العراق وسوريا. تشكل الطائفة للفرد في حالتنا العربية أكثر من التزام ديني، هي أصبحت هوية سياسية حتى لغير المتدينين، يعبر من خلالها الفرد عن مواقفه التي يجب أن تتطابق بالضرورة مع موقف الطائفة. والطائفة هنا ليست كياناً هلامياً أو جماداً، لا يمكن تصويب النظر عليه وفحص مخرجاته، وبالتالي نقده ومحاسبته، بل هي مشروع سياسي، تقوده جماعة مسيسة تنظر لنفسها كممثل لأعضائها تجاه الدولة، تجاه الطوائف الأخرى. المزعج في هذا الأمر -أعني التفكير بمنطق طائفي، وشيوعه على بقية الأطروحات التي تسعى لتطوير مفهوم المواطنة- يتلخص في انخراط الكثير من الكتّاب والنخب في حملة الترويج لهذا الفهم المعطوب للمسألة الطائفية. أي باعتبار الفرد "كائنا طائفيا" يُطلب منه التفاعل واتخاذ المواقف، وأحياناً التنفس، بناءً على هذا الانتماء. يتحجج هؤلاء بأن الصراع الاقليمي لا يساعد على تجاوز محنة الطائفية. يقال هذا الكلام، وهو تبريريٌ في ظاهره كما في باطنه، رغم أن كثيرا من المثقفين والنخب قد انسجموا في أطر ثقافية وطنية متجاوزة للإطار الطائفي. إن تجاوز الطائفية لا يخدش الاعتقاد بالمذاهب الدينية، لكنَّ تجاوزه أمرٌ ضروري لبناء مواطنة سليمة.