قبل عشرين عاما حين كنا طلابا بكلية الشريعة أتذكر تلك الحقبة بكل تفاصيلها ومواقفها، وأنها الفترة التي سميت «مرحلة الصحوة» والتي ظهرت فيها الجماعات والتيارات بشكل وحراك كبيرين، خاصة أنها فترة شغف الشباب فيها لمحاضرات مشاهير الدعاة في المساجد، والتسجيل الصوتي لهم، بل كان السجال الفكري بين الطلاب في قاعات الدراسة مسيطرا كون عباءة الصحوة هي الصوت البارز للرؤى والأفكار حتى غدا كل حزب وقتها بما لديه فرحا، كما أني أتذكر أستاذا فاضلا درسنا الفقه وكان شديدا على الطلاب وعلى الشباب المندفع والذي يميل إلى الغلو والتصنيف، والتبديع والتفسيق والتكفير، وكان يسميهم «الطلاب الأوباش» كون بعضهم يجلس في القاعة مقوما ومقيما في أسئلته عقيدة الأستاذ ومنهجه الفكري، وإلى أي مدرسة ينتمي، إذ الحقيقة أن تلك المرحلة كانت نواة للأفكار التي يسميها البعض «الأفكار الأصولية» والتي تتسم بالتشدد والتصنيف، بل تتميز برفض المخالف والحوار البناء معه، ومن وقتها وشريط الذاكرة الآن يعيدني لتلك المرحلة التي حملت في جعبتها تغيرا في مسيرة فكر الشباب السعودي خاصة، والتي ظل امتداده قائما إلى اليوم، وكأن ذلك الأستاذ دوما في خوف مستقبلي من كل جماعة وفكر متطرف وأصولي وآثارها الفكرية. لذا دوما لدي شعور وقلق مريب من المصطلحات الفضفاضة، والتي تمثل ايدلوجيات وماهيات خاصة عند مدارسها الدينية أو السياسية، فهل مصطلح «الأصولية الدينية» مصطلح منهجي وعلمي، أم أن هناك أصوليات سياسية أخذت من الدين لباسا وثقافة؟ والإجابة عن هذا السؤال توقفنا أولا على حقيقة مصطلح الأصولية والمشتق من Fundamentals كما تسميه المفاهيم الانجليزية، وفي العربية من كلمة «أصول». والمتوقف عند كلمة أصول يجدها دارجة في تراثنا الإسلامي، فالإسلام أصول وفروع، والأصول هي الأركان والأسس في العقائد والتشريع، وعليها درج علماؤنا بقول «أصول الدين، وأصول الفقه» وكتب فيها المراغي كتابه «طبقات الأصوليين»، لكن يظل المقصود هنا هو المصطلح الحادث الذي سحبه أعداء الأديان على كل مسلم مرتبط ومتمسك بدينه، لذا اعتبر العلامة بكر بوزيد مصطلح «الأصولية» من المناهي اللفظية، لذا من المهم هنا الوقوف والرجوع لنشأة المصطلح فلربما يكون المصطلح تم تداوله بداية من صدور كتيبات عام 1909 في أروقة الكنائس المسيحية تحت عنوان الأصول، ووزعت على القساوسة والمبشرين واللاهوتيين بالمجان ملايين النسخ. وتدور المفاهيم لمعاني الأصولية وتحديدا الدينية على ثلاثة أفكار أولها: الجهاد من أجل حماية الأصول، الثاني: رفض النظريات العلمية المتناقضة مع الإيمان والوحي، والثالث: رفض آراء العقل والتأويل والهرطقة والتفكير الليبرالي، ومن أمثلة ذلك تفسير نصوص الإنجيل وفق نظرية التطور الداروينية، ونقد قصة الخلق كما في سفر التكوين، وعليه خرجت الأصوليات بأن سلطان الله يجب أن يسود العالم والإنسان، لأنه من غير هذا السلطان الديني فالإيمان ممتنع، ومن يقرأ حول الأصولية المسيحية وتاريخها ونشأتها يدرك أن فكر التشدد والغلو قديم كونها حركة تبشيرية متشددة تدعو إلى العصمة الحرفية للكتاب المقدس والعودة الحقيقة للمسيح، ولو تساءلنا عن نشأتها لعرفنا أن ما هيأته الأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية السائدة في أوروبا وفي العصور الوسطى كان سببا لظهورها كحركة دينية رأت في الانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية ضرورة تمليها عليها غيرتها الدينية.. ومن يتابع النشاط الديني للحركة الإصلاحية التي قام بها مارتن لوثر يدرك ذلك. والمتأمل في مسيرة الحركات الأصولية المتشددة كخوارج الأمس ودواعش اليوم، وأمثالهما كحزب الله أو التيارات الباطنية يجد القواسم بينها كثيرة فمنها: أن غيرتها الدينية غير منضبطة بضابط الدين وأخلاقه ومقاصده لذا تجد التعصب والرأي الواحد ورفض الحوار والميل إلى العنف سمة بارزة في فكرها وسلوكها، والثاني الهلع الدائم من الرأي المخالف والتنويري كونها تعتقد أن الحق -في غير الثوابت- لا يتعدد وأنه واحد، ومحاربة العقل والتفكير العلمي المنضبط ومحاولة فرض الآراء بالقوة والعنف، وأيضا تبعيتها السياسية باسم الدين. من هنا ستظل الحرب وإرهاب الأصوليات قائمين ما دام الجهل والتحضر والتبعية في انحدار، ولو رجعت الأفكار المتشددة لسماحة الدين وصفائه، وتمحورت حول هدي الأنبياء، وابتعدت عن الارتماء في أحضان السياسة لساد السلام والأمن الذي هوغاية كل دين.