سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مفكر عربي: «داعش» تنظيم خارج إطار العقلانية.. والثقافة هي الحل للتطرف الهوياتي رئيس مجلس الجمعية البريطانية للدراسات الشرق أوسطية يؤكد أن المعرّف العرقي للهوية مخيف ويحمل بذور التطرف
منشغل ب"الإنسان"، بوصفه إنساناً، وباعتباره أصلاً ل"المعرفة" وغايةً ل"العلوم"، لا ينفك عن سبر أغواره، باحثاً، دون كلل، عن "رفعة" منشودة ومحبورة، لا يدرك منها إلا آفاقاً تتبعها آفاق، رغم كل ما أصاب نواة دَرسِه من فعلٍ، رفع تارة شأن هذا الإنسان، وفي أخرى نصبه وكسره، ليضيع بين "أنا" و"هو" مزعومة وجاهلة. حالم ب"أنا إنسانية"، تكون "هوية" جامعة، من دون أن يحرفه "الحلم" عن طبائع الواقع، التي أطّرت "همه" و"اهتمامه" في قوالب حضارية، تنازعها الفاعل الحضاري على مدى التاريخ، مستحوذاً على منجزها، ومُلقياً بما شذ منها على آخر، هو في حقيقته "أنا إنسان". البروفيسور د. ياسر سليمان، أحد المفكرين العرب، الذين أدركوا محورية الإنسان في مجمل المنتج العلمي والمعرفي، وطمح إلى "هوية إنسانية"، لكنه يدرك أن "الطريق إليها ليست معبدة"، وتزخر ب"هويات كامنة"، وتنضح ب"هويات قاتلة ومقتولة". يلقي د. سليمان باللائمة، في "العنف" و"الإرهاب"، على الفاعل الإنساني، ويبرئ العقائد والأيديولوجيات، ويرى أن ما يلصق بها "محض افتراء"، مرجعاً ما خرج عن الاعتدال إلى "أسباب سياسية، يوظف الدين في تبريرها". المفكر د. ياسر سليمان، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية، هو رئيس مجلس الجمعية البريطانية للدراسات الشرق أوسطية، ورئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، ورئيس معهد الدوحة للدراسات العليا، وأيضا هو الحائز على وسام الإمبراطورية البريطانية من درجة قائد، ومدير مركز الأمير الوليد للدراسات الإسلامية، وأستاذ كرسي السلطان قابوس بن سعيد بجامعة كامبريدج. "اليوم" التقت د.سليمان في العاصمة الأردنية عمّان، وتبادلت معه أطراف الحلم بالعودة إلى الإنسان، الذي قضت "أناه الحقة" ضحية الإفراط والتفريط، وكان لها هذا الحوار: شغلت "الهوية" حيزاً واسعاً من فضاءات التفكير الإنساني، وذلك في سياق محاولات مزعومة أو حقيقية لتعريف الإنسان أولاً، وتكريسه تالياً، إلا أنها لم تصل إلى مرافئ آمنة، تحقق الغاية، ما قاد في النتيجة إلى تخضيب هذه الفضاءات بالكثير من الصراعات والحروب والدم أيضاً، أية "هوية" هذه؟ * ترتكز "الهوية"، أية هوية، على شبكة مركبة ومعقدة من المكونات (الثقافية والعقائدية والسياسية..)، وتصنع تقاطعات هذه المكونات مضامين الهوية، بينما يشكل المحرّض السياقي الدافع لبروز أحد المكونات أو العناصر ليسبغ الهوية ويمنحها المضمون الظاهر، وتطرف هذا المضمون يقودنا إلى الصراع؛ وبالتالي يصير الاستفهام حول الكيفية التي نوازن فيها بين عناصر هذه الشبكة المركبة، بحيث لا تلغي الواحدة الأخرى؛ وفي العموم، إن الهوية تحتمل أكثر من مفهوم بين لغة وأخرى، وجماعة وأخرى، وحين نتحدث عنها نجد أنفسنا نتحدث عن شيء يطفو فوق المعاجم وتفسيراتها. لكن، قد تكون الهوية، التي هي في حقيقتها "الأنا"، أداة ل"الآخر"، التي يوظفها في إطار مشروع يستند إلى صورة نمطية نسجها في مخياله الجمعي، ما يجعلها في أتون صراع تخوضه بلا إرادة.؟ * هذا حقيقي، لقد أصبحنا "النحن" التي أرادها "الآخر"، وأخرجها عبر الصورة، لكن علينا أن ندرك أن هناك أكثر من "آخر"، نحن اختزلنا "الآخر" في الغرب، لكن الآخر ليس الغرب فقط، وفي كل الأحوال، "الآخر" لا يسمح لك بتجاوز هويتك، بل يعتبرها أداة للتعريف بك، ويجبرك على ذلك بالنص القانوني، فأنت قد تكون بحاجة إلى صياغة هويتك بشكل معين، لكنهم يرفضون هذه الصياغة، ويلقون عليك الصياغة التي يريدونها، وبالتالي تصبح من كانوا يريدونه أن يكون، وليس ما كنت تريد أن تصبحه لنفسك، وهذا يدفع إلى الصراع. بما أن الآخر متمسك بما يريده ل"النحن" من هوية، هل تظن أنه متمسك بهويته أيضاً؟. * نعم، المجتمعات الأخرى مجتمعات هويات أيضاً، والآخر متمسك بهويته، ويرفض التخلي عنها، وبالتالي جميع المجتمعات والأمم تعيش في منظومة الهوية، وهي رهينة هذا الخطاب الهوياتي، وحتى الآن لم تستطع الانعتاق من سيطرته وسطوته، وبالتالي نحن جميعاً ضمن خطاب الهوية، الأمر الذي يثير القلق. * ثمة دفع، في أوساط المفكرين، نحو البحث عن هوية إنسانية جامعة، تتجاوز السائد من التشظي الهوياتي، هل هذا ممكن؟. الطموح بهوية إنسانية لا يعني أبداً أن الطريق معبد إليها، فالمجتمعات تتمسك بهويتها، وما زالت مقولات الهوية كامنة بها، وعلى أخلاقية الهوية الإنسانية، إلا أن السؤال ليس كيف ننفي الهويات لنبلغ هوية جامعة، بل كيف نصل إلى قنوات تسمح لهذه الهويات بالعيش متفاهمة ومتصالحة ضمن التزامات أخلاقية؟، فالالتزام الأخلاقي يتطلب القيام بأعمال أو سياسات قد يعتبرها الآخرون غير صحيحة، فالهوية قد تستخدم كأداة تحريضية، سواء في حيزنا السياسي وفي مختلف البقاع، فمثلاً الولاياتالمتحدةالأمريكية قد تطلب من الراغبين بالهجرة إليها أن يكونوا مسيحيين، هذا في حقيقته تطرف، يوازي صورة التطرف الذي يريدون أن ينتصروا عليه في منطقتنا؛ وفي سلوكنا اليومي، يمكن ملاحظة كيف يسعى الآخر إلى التعرف عليك، إذ تكتشف أنه لا يمكنه التعامل معك دون أن يصنفك، عبر أسئلة ليست بريئة، تحدد نسبك لمكان وطبقة اجتماعية واقتصادية، فهو لديه تصنيفات، وحتى يستطيع أن يتعامل معك يجب أن يضعك في صندوق معين، وكأن البشر مبرمجون على كيفية تصنيف الأشخاص، وإذا سحبت أدوات التصنيف سيفقدون قدرتهم على التعامل معك، نعم نحن بشر، لكن بشر لا تكفي لتعريف هوياتنا. في المنطقة العربية نكتشف أن ثمة خطباً أصاب الهوية، هويات متوالدة وأخرى تتشظى، فيما لا يتوقف الحديث عن الاختلاف رغم كل الجوامع، ويصير هذا الاختلاف مثار صراع واقتتال، كيف تصف هذا الواقع؟. * مفجع أن تشاهد كل هذه الهويات، الكامنة والقاتلة، قد بدأت تصعد بأشكالها القبيحة إلى السطح، في أحيان كثيرة قد تصعد هذه الهويات نتيجة مباراة لكرة القدم مثلاً، هناك مغالاة في الطروحات الهوياتية، تحاول أن تثبت أن هناك طغيانا لهوية على أخرى، أو أن هناك هوية أكثر شمولاً من غيرها، لذا أعتقد أن الهويات قد تصبح قاتلة، وفق وصف أمين معلوف، إذا لم تضبط وتستخدم أداتياً بطريقة عقلانية من قِبَل من ينتمون إليها، ومن يستطيعون تحريكها، ليس فقط من قبل الحكومات بل من خلال مؤسسات المجتمع المدني وغيرها. أؤمن بفعالية كل فرد في المجتمع، وأعتقد ان النمط المهيمن في المنطقة هو هوية الدولة القطرية، التي تجدها تُغني لذاتها، وتجد نفسها في صراع مع هويات قُطرية أخرى، وهناك هويات ما تحت القطرية، تشكل المكونات الاجتماعية محورها، ولكن لا مخرج إلا بالعودة إلى الإنسان أو الفرد الفاعل، الذي يرفض أن ينجر إلى هذه الهويات، وحين تصبح الهويات القُطرية وما تحت القُطرية هي الهويات المعرّفة والجاذبة تصبح لينا مشكلات كثيرة. إذاً هي صناعة هويات؟، هذه الصناعة باتت رائجة، وقادرة على استقطاب مجاميع إنسانية كبيرة لمنتجها، الذي يؤسس للتطرف، بمفهومه الواسع، وبالتالي هي عملياً تحث الآخر على الصراع، معادلة صعبة؟. * بداية، كثير من العناصر التي تدخل في صناعة الهوية هي في حقيقتها لا معنى لها، إلا إذا دخلت في إطار يعطيها معنى، مثلاً عندما تكون في حيز عربي تشعر بأن الغربة مع هذا المكان أقل منها حين تكون في حيز آخر، وأيضاً بعض عناصر الهوية من الصعب الحوار بشأنها أو المفاوضة عليها، فهي عناصر أساسية لا يمكن تجاوزها، وبشكل أدق، هناك ما يمكن تسميته ب"الهويات السخيفة"، أو "العناصر السخيفة"، التي لا قيمة لها في حيز آخر أو وقت آخر. وللأجيال أقول، لا يمكن ضبط الهوية بمعرف واحد، فهذا سيؤدي إلى هويات قاتلة، وأخرى مقتولة، فعندما تختزل الهوية بمعرف واحد، قريب من مساحة الفصل عن الآخر، هذا سيؤدي إلى الإقصاء، ويحيل الهويات إلى هويات قاتلة، الثقافة لا تفعل هذا إطلاقا، وتتجاوز بنا عقدة أما هذا أو ذاك. إذاً أنت تدعو إلى تعريف الهوية عبر الثقافة؟. * أؤمن بأن الثقافة هي الأساس في الحل، حيث لا يمكن أن ندفعها إلى حد التطرف باعتبارها معرّف للهوية، فمعرفات الهوية الأخرى قابلة للتطرف والإقصاء، أكثر من الهوية القائمة على معرّف ثقافي، فهي قادرة على توليد الخلفية التي توصلنا إلى المنظومة القيمية للحديث عن الذات والآخر، لذا لا بد من العودة إلى الثقافة وحوار الثقافات. وبنظرة سريعة على المنطقة العربية مثلاً يمكن اكتشاف حجم الهويات الفرعية المتصارعة، التي ظهرت في غفلة من الثقافة، باعتبارها معرّف لهوية المنطقة، فإرث المنطقة العربية ثقافياً سبق كل المعرفات الأخرى، وهو ما يجب أن نستنطقه ونأتي به لمعالجة التشوه القائم، الذي استحدث لغايات سياسية بحتة، دون أن يقودنا هذا إلى الأخذ بالعربية بوصفها عرق. تجاوزك ل"العربية" كعرق يعني أنك تنكر على المنطقة وحدة الوعي التاريخي، وتلك الجذور الضاربة في التاريخ؟. * ليس انكاراً لوحدة الوعي التاريخي للمنطقة، لكن التوجه بالهوية إلى مبدأ العرق أمر مخيف، وفيه من بذور التطرف الكثير، ومن حيث المبدأ لا يمكن التوصل إلى ما قد يسمى ب"نقاء العرق"، ببساطة ليس هناك من يمكنه أن يقول "أنا عربي تماماً"، وأيضا العربية هي في الثقافة، بغض النظر عن العرق أو الدين أو غيره من المعرفات، فصاحب الثقافة العربية هو العربي، وهنا لنبتعد عن العرق في مقاربة الهوية، فهذا سيدفع إلى بروز اعراق أخرى تزخر بها المنطقة، وكذلك سيقودنا إلى الصدام بأعراق أخرى، في حين ان الثقافة ستكون جامعة للجميع، ودون أن تحمل بذور البغضاء. ماذا بشأن الدين، باعتباره معرّفاً للهوية، هل هذا يشكل رافعة للتقارب بين مكونات "النحن"، وأيضا تقارباً بيننا وبين الآخر من دين مختلف في حيز سياسي آخر؟. * مبدئياً، الهوية ذات التعريف الديني لا شك أنها تقربنا إلى الله -جل وعلا- وتتجاوز في هذا تنوعنا الثقافي وبيئاتنا، لكننا نتوجه إليه في عُلاه بثقافات مختلفة، بيد أن الإشكال يبرز في الممارسة الدنيوية، ولتوضيح الأمر أضرب مثلاً، حين أتوجه إلى بيت مسلم خليجي أو سوري أو عربي، أو بيت مسيحي عربي، لا أكون بحاجة للتعرف على عاداته، فأنا اشترك معه في العادات العربية، التي في جزء منها سبقت الأديان على الأرض، ولكن حين أتوجه إلى بيت مسلم باكستاني، أو غير عربي، من المؤكد أني سأسأل قبل ذلك عن عاداته وكيف اتصرف معه. وأيضا، في الحوار بين الأديان، على أهميته، وقد كنت مشاركا العديد من مؤتمرات الحوار بين الأديان، إلا أننا كنا نبتعد عن القضايا الاشكالية، ونتجنبها تماماً، لاعتبارات عقائدية، لا يمكن تجاوزها، وكذلك تجنبنا الكثير من القضايا الاشكالية المرتبطة بالقيم وليس بالعقائد. والغريب، أن الحوارات الدينية لا تتوقف عند الأديان، بل تتطور إلى حوارات هويات، وهو ما يحدث شرخاً في الثقافة الجمعية واللغة وغيرها مما يجمعنا، فحين يكون المحرض السياقي هو الدين تجد أن من ينتمون إلى هوية تحت مضامين ثقافية أو لغوية أو تاريخية يصيرون أشلاء مختلفة. "الآخر" و"الدين الإسلامي"، لا يفتأ "الآخر" عن توجيه أصابع الاتهام للدين الإسلامي والمسلمين، وبين الحين والآخر يلصق بديننا الحنيف ما ليس فيه، فالإسلام في جوهره دعوة إلى التسامح والسمو، إلا أن أحداثاً هنا أو هناك تكون مفتاحاً لهجمات الآخر الدينية، كيف ترون الأمر؟. * مبدئياً، لا يمكن للعقائد والأديان أن تكون سبباً في التطرف، والإسلام بريء من هذا تماماً، وعلينا رفض ما يلصق بديننا وبنا، بوصفنا عرباً ومسلمين، فالعقائد لا يمكن أن تفعل أو تعمل، من يقوم بأفعال العنف هم أناس عاديون، قد ينتمون إلى هذه العقيدة أو تلك، أو إلى هذا الدين أو ذاك. ولا بد من الاتفاق على أن المحرك الأساسي للتطرف والغلو ليس دينياً، بغض النظر عن هذا الدين، بل هو سياسي بامتياز، ولكن يُصار إلى توظيف الدين في تسويغ العنف وتبريره، ويمكن اكتشاف هذا ببساطة لدى السعي إلى "أنسنة" العقائد، فهذه "الأنسنة" ستكشف لنا أن التطرف سلوك فردي، وليس دينيا. كذلك، يجب أن يدرك الجميع أن رفضنا لما يُلصق بنا، كعرب ومسلمين، هو رفض بوصفنا الإنساني، وليس الديني، فالديني منزه عن هذا، وبالتالي نحن لأننا بشر نرفض الإرهاب والعنف، ومن يرتكب هذا العنف يرتكبه بوصفه الفردي وليس الجمعي، وهنا يصير البحث لماذا هذا الفرد أصبح عنيفاً؟، أو لماذا اتخذ العنف والإرهاب كوسيلة؟، وبالتالي تصير الإجابة ربما لأنه من الأجيال المستبعدة والمسحوقة، التي تعتقد أن المهاجرين السابقين خنعوا للدولة المضيفة، وأنهم لم يعبروا عن حاجاتهم، وبالتالي السياسة والاستبداد هما المحرك للتطرف. لكن "الآخر" يصر على اتهام العرب المسلمين؟. * علينا أن نرفض ما يلصق بنا، لا أن ننكره، فإنكاره يختلف تماماً عن رفضه برمته، فمن يميل إلى التطرف تكون لديه رغبة بالثأر والانتقام، وهي محاولة لإعادة العزة للذات، التي يعتقد أنها امتهنت، ولدى البحث عن جوهر ومحرك العنف ستجده ضعيفا، والجميع يدرك ذلك. وهنا يجب ملاحظة أن رفض التطرف يعني رفض كل أنواع التطرف، حتى التطرف في الاعتدال، أو ما يمكن وصفه بالوسطية المتطرفة، نرفض التطرف بكل أوجهه. أما بالنسبة لموقف الآخر، فهذا عائد إلى أفق الانتظار في الحيز الثقافي والاجتماعي والسياسي في المنطقة، الذي تسيطر عليه مسوغات تبدو أنها نابعة من معتقدات خاصة بالمنطقة، وما يقوم به البعض يعتقد أن يتماهى مع ما يتوقعه المتلقي في المجتمعات العربية. اليوم: الجماعات المتطرفة، كتنظيم "داعش"، الذي أطلق موجة جديدة من الإرهاب العالمي، وحتى الآن ينجح في تبني خطاب ديني لتسويغ وتبرير أفعاله، ورغم أن الإرهاب بحد ثاته هو فعل مجنون، إلا أن التسويغ والتبرير لا يمكن أن يكون إلا عقلانياً، ويجب أعمال العقل فيه لبلوغه، فهل هؤلاء عقلانيون؟ * المسألة معقدة، في البداية يجب التمييز بين المنتمين إلى الجماعات المتطرفة، وبين نخبة أو قادة الجماعات المتطرفة، بالنسبة للمنتمين فهؤلاء ليسوا منفصلين عن مجتمعاتهم، أو ليسوا منقطعين عقلانياً عنها، بل لديهم سجلات تكشف عن اشتباكهم مع مجتمعاتهم، كالسجلات الإجرامية والإحساس بالتهميش أو الإقصاء أو الاستبداد والطغيان، أما الصفوة أو النخبة في هذه الجماعات ينطبق الانفصال العقلاني عن المجتمعات على بعضها وليس عن الجميع ممن انتهج العنف. أما المثال الذي ضربته فهو "داعش"، هذا التنظيم خارج إطار العقلانية، لكنه يبحث عن تبريرات أكثر من عقلانية، وإذا كانت تصيب ما تهدف إليه فلأن هناك أفقاً وأيديولوجيا تحدد أفق الانتظار، وهو قائم الآن على العودة إلى المعتقدات للبحث عن مسوغات لما يقومون به، ويقولون نحن نقدم لك ما يكمن في نفسك أنت، فجوهر الخطاب قائم على أنك "امتهنت واعتدي عليك"، و"لا يمكنك أن تصل إلى مصالحة تاريخية مع الآخر"، و"لا يمكن أن ترد على القوة إلا بالقوة"، وهذا كله في سياق الدفع باتجاه العنف للرد على ما حل بك، والرسالة الضمنية هنا أن "قيم الاعتدال لم تحقق المكاسب المرجوة". وعندما يبدأ التطرف تصبح وتيرته بحاجة إلى وتيرة من التطرف الأعلى، وصولاً إلى ما يمكن تسميته "أنقى أنواع التطرف"، لكن التطرف هو استبداد كريه، والضغط يولد آخر في اتجاه مختلف. أخيراً "الضغط يولد آخر في اتجاه مختلف"، هذه العبارة قد تلقي اللائمة على الدولة الوطنية، التي مارست الاستبداد والقمع؟. * العقدة ليست في الدولة، رغم أني لا أبرئها، لكن استهلالاً لا بد من الإشارة إلى الشعوب، التي تسير إلى المقصلة بعيون جاحظة، لتصير -تالياً- ضحية، لا أفق تراه إلا أن تكون ضحية، لأنها ببساطة آمنت بأنها لا تستطيع التغيير، ما صنع الطاغية، الذي بدأ حديثه بأولوية الاستقرار، حتى بات الاستقرار أحد أوجه الاستبداد، التي أرجأت الحرية والعدالة والكرامة؛ ولكن هل فشلت الدولة؟، لا أدري إذا ما كانت قد فشلت تماماً، لكن لا شك هي لم تؤد إلى نجاح كافة الآمال المعقودة عليها.