لا تعايش بلا آخر يختلف، ولا آخر مختلف بلا اعتراف، والاعتراف الذي يمنح الوجود اللامشروط هو محك السلم الأهلي. والتسامح لا يشكل طموحاً، التعايش وليس التسامح هو المبدأ في الفكر السياسي الحديث وهو القيمة المركزية في المجتمع المدني، ولكن بين التسامح والتعايش مسافة تمنح الذوات تعالقا وحضورا متماثلا لا انحياز فيه، الأول هدنة تخفي توترا أو تتعالى عليه، فيما الآخر ترحيب بالتوتر وإعلاء من شأنه بوصفه صيغة لتعالقات خلاقة. التوتر يضفي بعداً ديناميكياً على الحيز العام، التوتر إذن قيمة، ليس بافتراضه ثابتا أكثر تجذرا في الكيانات السياسية اللامتجانسة، وليس باعتباره اصطفاءً ناجماً عن ديالكتيك الذات وضدها، بين الأيديولوجيات والهويات المتشابكة والمتصارعة، بل بوصفه تفجرا للمكبوت واحتفاء بالاختلاف والآخر. من هنا يمكننا تشكيل مقاربة مغايرة للصراعات الطائفية، مقاربة تتفهم قلق الهوية وهواجس الذات في عصر يسميه المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه «عصر الهويات»، الهويات المتصاعدة في عالم يتعولم وتضيق فيه مساحة الأنا لصالح النحن، على أن هذه «النحن» لا تعيش إلا «بأنوات» تبرز ذاتها كما هي بلا قيد أو شرط أو إملاء. الأنا هنا مركبة، سلسلة من الانتماءات المزدوجة، واللاانتماء يتحول إلى انتماء ديني أو أيديولوجي أو إثني أو قومي فكل انتماء هو نفسه هوية خاصة تضاف كحلقة من الهويات المتجاورة للذات نفسها. الواقع هنا يتجلبب برداء النسبية إذ لا توجد جوهرانية ثابتة، بخلاف العلمانية الكلاسيكية التي تنتج حيزا عاما لا يكترث بما هو خاص، العلمانية الكلاسيكية تفصل فصلا قاطعا وثابتا بين الديني والسياسي، فالاعتقاد أو الإيمان الذي قد يشكل انتماءً أوليا أو هوية قبلية، يمثل شأنا مهمشا أو مهملا، ولأن السياسي سيصادر كل إمكانيات التعبير فسيؤول الديني إلى دائرة المقموع والمكبوت الذي سرعان ما ينفجر كلما فترت الإرادة السياسية. ما الذي يحد من السعار الطائفي ويشق معبرا للاتصال إن لم يكن المكبوت نفسه؟ تقول الحكمة: إن أردت أن تقتل شيئا فدعه يتوغل فيك، المكبوت الطائفي يجب أن يعلن عن نفسه، يجب أن تتحرر العقد، أوروبا خاضت صراعا مريرا حتى تمكنت من تصفية الحساب مع الماضي وتمكنت من تحرير نفسها من الاحتقانات التي عمرها عمر التاريخ. الجماعة الطائفية لا تلغي ذاتها بمجرد أن نأمرها بذلك، والاندماج لا يعني التلاشي أو الانكفاء، ولكن العلمانية بمنظورها الكلاسيكي تجعل من تلاشي الهوية الخاصة رافعة لبناء الحيز العام، ثمة هنا بعد صدامي واستئصالي ضد الخاص، ثمة عدائية مكشوفة تحيط بالذات وتجعلها مدانة، لكنها ستثور ضدها، وهنا المفارقة أو المنعطف الذي سيدشن مرحلة علمانية جديدة، علمانية تتخذ من التعددية رافعة لها، هذا المنظور الجديد لا يعطي الأولوية أو التفوق للسياسي، ولا يعزل الديني في صندوق، الحاجة متبادلة بين الأقنومين، أحدهما يتيح حيزا والآخر يمنح شرعية. هذه الحاجة تفرض تحولا في الداخل والخارج، أي في الحيز العام كما في الحيز الخاص. يقول مارسيل غوشيه: ففي الوقت نفسه الذي يجد فيه الفرد أنه يعاد تحديده اجتماعيا، سواء تعلق الأمر بحقوقه أم بمصالحه، فإن عناصر علاقته بنفسه تتغير بشكل أساسي. وينقلب رأسا على عقب إدراكه الداخلي لمكونات شخصيته» فما عادت العلمنة تفكيكا جراحيا بين مكونات متشابكة ومتداخلة بنيويا، وما عادت انحيازا سافرا للعام على حساب الخاص، العلمنة في مرحلتها الجديدة تتسم بطبيعة متصالحة مع الذاتي، مع ما يشكل انتماءً أوليا لهويات عالقة في قاع التاريخ، في أغوار الماضي السحيق. ولكن كل ذلك يبدو سابقاً لأوانه في العالم العربي، لأن هناك من يجرم كل خروج من الماضي «والخروج لا يعني الإلغاء والشطب» ويلعن كل محاولة للإمساك بالجرح، بل سيبدو فعلا ترفا فكريا ما دامت أسئلة العلمانية والحداثة والعلاقة بين الديني والسياسي والفردي والجماعي وكل ما يمت بصلة إلى الفكر السياسي الحديث ما زال في طي المسكوت عنه حتى يشاء الله. في العالم العربي لا حاجة لإثارة الأسئلة والنقاشات والمعالجات الجوهرية، هناك دواء سحري ثابت: حقن إبرة مخدرة أو «آخر الدواء الكي».