الحديث عن علاقة دول الخليج العربية بإيران حديث ذو شجون، فهذه العلاقة لم تكن أبدا في التاريخ المعاصر بأحسن حال. وكان ثقل التاريخ وإسقاطاته واضحة في هذه العلاقة. مرت علاقة هذه المنطقة بإيران الشاه بتوترات منذ قامت القوات الإيرانية عام 1925م باحتلال لواء المحمرة، وعملت على إلغاء الهوية لهذا الجزء العزيز من الخليج العربي. وليتبع ذلك، حالة من التوتر الدائم، بسبب السياسات العنصرية، والأطماع التوسعية من قبل حكام طهران على حساب سيادة وأمن دول الخليج. وكان من أبرز أسباب التوتر، الادعاءات الإيرانيةبالبحرين، وما تبعها من تدخل لهيئة الأممالمتحدة، وإجراء استفتاء شعبي بالبحرين، في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، أكدت نتائجه، تمسك شعب البحرين باستقلاله، وبهويته العربية. وكان رد سلطات إيران على فشلها الذريع في احتلال البحرين، هو السطو على الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الصغرى، وطنب الكبرى، وجزيرة أبو موسى. ورغم كل الجهود والمساعي التي بذلت لاستعادة دولة الإمارات العربية، بشكل سلمي، لهذا الجزء، فإن كل المحاولات لم تؤد إلى نتائج إيجابية، وذهبت جميعها أدراج الرياح. وحين حدثت الثورة الإسلامية، في نهاية عقد السبعينيات من القرن المنصرم، واصل الحكام الجدد سياسات العداء لدول الخليج العربي. وتزامن هذا العداء مع رفع شعار تصدير الثورة لدول الجوار. وأتبع حكام طهران القول بالفعل، فعملوا على نشر خلايا وتنظيمات التخريب. وكان العراق هو مكان الاختبار الأول لتصدير الثورة، حيث حصدت أرواح الأطفال في عمليات تخريبية، قامت بها عناصر حزب الدعوة في جامعة المستنصرية وغيرها من المواقع المكتظة بالسكان. وليتبعها إعلان من طرف واحد لإلغاء اتفاقية الجزائر عام 1975، والتي رسمت خارطة طريق للعلاقة بين العراقوإيران. وقد برزت نتائج السياسة الجديدة لحكام طهران في إصرارهم على التمسك باحتلال البلدان العراقية، التي نصت اتفاقية الجزائر على إعادتها للعراق، وبضمنها زين القوس، وزرباطة وسيف سعد وخانقين، ولتكون هذه البلدات مراكز لانطلاق العدوان على العراق، خلال الحرب الضروس، التي امتدت ثماني سنوات. ورغم أن المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي نأت بنفسها في المراحل الأولى للحرب عن اتخاذ موقف منها، إلا أنها لم تسلم من الاعتداءات الإيرانية، وباتت ناقلات النفط الخاصة لبعض دولها عرضة للهجمات العسكرية الإيرانية. وهكذا فإن أفضل وصف لعلاقة دول الخليج بطهران، أنها علاقات عاصفة، تتجه صعودا نحو الأسوأ. وقد تدهورت أكثر فأكثر، بعد احتلال العراق، وتغلغل إيران في تفاصيل أحداثه اليومية، إثر تسلم الميليشيات المؤيدة لها مقاليد الحكم في أرض السواد، وبناء نظام طائفي قائم على القسمة والعداء للهوية التي صنعت تاريخ العراق منذ فجر الرسالة الإسلامية. وقد جاء تطور الملف النووي الإيراني ليضيف إلى أوار الصراع المختبئ تحت الرماد لدى دول مجلس التعاون الخليجي قاطبة شعورا حادا بأنها تقف على فوهة البركان، والخشية من امتلاك إيران للسلاح النووي ليست افتراضية. وقد عملت هذه الدول منذ فترة طويلة لكي تكون المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك السلاح النووي، الذي يمتلكه العدو الصهيوني. ولا جدال في أن امتلاك إيران لهذا النوع من السلاح سوف يضاعف من تعقيدات الموقف، ويجعل التوصل لنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة أكثر صعوبة. وليس من شك في أن التطورات الأخيرة التي طرأت على علاقة طهرانبواشنطن ستنقل العلاقة بينهما من شكلها الصراعي إلى الشكل التكاملي، وسيكون لذلك اسقاطاته المباشرة على الأوضاع المتفجرة في سورياوالعراق. وبالنسبة لدول الخليج العربي، فإن من المستبعد، في ظل التحولات الإيجابية، في علاقة واشنطنبطهران، أن تتعرض إيران مباشرة بالسوء لدول الخليج العربي. لعلمها أن ذلك سينسف المكاسب التي حققتها عالميا في الأيام الأخيرة. وليس من شك في أن توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، وبرعاية أمريكية، سوف يغير المشهد السياسي الإقليمي بشكل كامل في المحافل الدولية من قبل ما يعرف بالمجتمع الدولي، وستكون له اسقاطاته المباشرة على الداخل الإيراني بشكل مباشر، كما ستكون له اسقاطاته على الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة بأسرها، وعلى القوى الدولية ذات العلاقة بهذا الشأن. فقد جاء توقيع الاتفاق بعد حصار اقتصادي قاسٍ على طهران، استمر عقوداً عدة، بدأ مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتسبب بخسائر كثيرة، وعزلة إيران الاقتصادية والسياسية عن الخارج. وفي هذا الشأن، فإن القضايا المتعلقة بتوقيع الملف وتأثيرات ذلك في الأوضاع في إيران والمنطقة.. كثيرة. فقد جاء توقيع هذا الاتفاق في ظل متغيرات داخل المؤسسة الدينية الإيرانية، بدأت بالتعبير عن نفسها منذ وصول محمد خاتمي لسدة الرئاسة، والذي أكد وصوله إلى السلطة، بما لا يقبل الجدل، تنامي التيار الإصلاحي، المطالب بتغييرات سياسية في شكل الحكم. وكان الأهم أن هذا التيار قد انبثق من داخل المؤسسة الإكيلركية الحاكمة. ولكن وئد التيار الإصلاحي بعد الانتخابات التي أوصلت أحمدي نجادي لسدة الرئاسة. وقد أسهم الحصار المفروض على إيران في تجميد الأوضاع السياسية. ومن هنا يمكننا القول، إن التوقيع على هذا الاتفاق، هو أهم حدث تاريخي في إيران منذ قيام الجمهورية. سوف يؤدي الاتفاق إلى تغيير موازين القوى داخل مؤسسة النظام الحاكم لمصلحة القوى الإصلاحية التي جرى وأدها، مرة أخرى، أثناء بداية الدورة الرئاسية الثانية، لأحمدي نجادي. وهنا يقتضي التذكير بأن الثورة الإيرانية اعتمدت على مثلث بضلعين متساويين: الضلع الأول هو رجال الدين الذين يتمركزون في قم، وينتشرون في بقية المدن والأرياف، ويقودهم الإمام الراحل الخميني. والضلع الثاني «البازار» ملاك التجارة وقادة الفعاليات الاقتصادية الخاصة المتواجدين بكثافة في العاصمة طهران وبقية المدن الرئيسية الإيرانية. أما الضلع الثالث فهم المهمشون في الأرياف. وكان تأثيرهم محدودا جدا في صنع السياسة الإيرانية. مثل المهمشون، الجموع التي وقفت خلف رجال الدين، ورجحت كفتهم في مواجهة جميع القوى السياسية الأخرى، يسارية وليبرالية ووطنية، القوى التي وقفت مناوئة لحكم الشاه، كحزب تودة والجبهة الوطنية، ومجاهدي خلق. نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وتسلم الخميني قيادة البلاد، نقل العلاقة بين «البازار» والمؤسسة الدينية من التحالف السياسي إلى الشراكة الاقتصادية. وكلما تعزز دور رجال الدين في المؤسسة الاقتصادية صاروا أكثر اقتراباً من عقل البازار وفكره. وقد أسهم ذلك في وضع اللبنات الأساسية للحركة الإصلاحية التي انبثقت من رحم مؤسسة قم. لقد حدث أول اختراق بالمؤسسة الدينية لمصلحة التوجه الجديد الذي نعبر عنه مجازاً بفكر البازار، والمطالب بانفتاح اقتصادي أكبر، وبعلاقات أمتن مع الدول الغربية، مع وصول محمد خاتمي لسدة الحكم. ولكن مؤسسة قم لجمته، وجاءت بأحمدي نجادي إلى سدة الرئاسة. ولم يكن التوازن السياسي، بفعل الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، والذي عطل من نمو المؤسسات الاقتصادية طيلة العقود الماضية لمصلحة قوى الإصلاح. ولذلك تمكن المحافظون من لجم الحراك الإصلاحي مرة أخرى أثناء الانتخابات التي أجريت عام 2009 وترشح فيها المهندس مير حسين موسوي لرئاسة الجمهورية. الآن أمام هذه القوى الإصلاحية فرصة لتحشد قوتها، ولتضاعف من فعالياتها الاقتصادية، ولتندمج بالكامل مع ثقافة وفكر رجال البازار. وسوف تستغل عطش الشركات الأجنبية للاستثمار في إيران لتتحالف معها بما يعزز إمكاناتها المالية والاقتصادية وينعكس إيجابياً على قدراتها السياسية، ويخلق بيئة مناسبة أفضل للتعجيل مجدداً بتحركها. وهكذا سيكون أول تداعيات هذه الأزمة هو التخلخل في العلاقة بين القوى التقليدية، التابعة للولي الفقيه، وبين القوى الإصلاحية الصاعدة، المنبثقة من تلك المؤسسة. لكن هذا التطور، ستكون له جوانب سلبية على النظام السياسي القائم. فتحقيق مزيد من الانفتاح الاقتصادي والسياسي داخل إيران، سيتيح المجال للنزعات القومية والدينية، التي قمعت طويلاً، للتعبير عن صبواتها، في الاستقلال الذاتي، مستغلة حالة الانفتاح، والعلاقات الإيرانية الجديدة مع أمريكا والدول الأوروبية. وبالقدر الذي تتعزز فيه قوى الإصلاح في إيران، بالقدر الذي تبرز فيه سياسات جديدة تطالب بتغيير خريطة تحالفات إيران مع دول الجوار، والتخلي عن السياسات الثورية، لمصلحة التوجهات الليبرالية الجديدة. ويتوقع أن تتمسك مؤسسة الولي الفقيه، في المدى المنظور، بعلاقة جيدة مع روسيا والصين، وتواصل سياساتها السابقة، تجاه حزب الله والعراقوسوريا. لكن علاقاتها بالغرب، سوف تتطور بالتوازي مع استمرار تلك العلاقات. وستعمد إيران لزيادة إنتاجها من النفط. وليس من المستبعد أن يتجاوز هذا الإنتاج الحصة المقررة لها من قبل الأوبك. وسيوفر لها ذلك مزيداً من السيولة النقدية، لكن ذلك سوف يسهم في انحدار أسعار النفط، إلى أشد مما هي فيه الآن. ولا جدال في أن زيادة الدخل القومي لإيران، ستجعل المجتمع الإيراني يقبل على المزيد من استيراد السلع الأساسية، بما يمكن أن يؤثر في الأسواق العالمية. وسيكون لذلك اسقاطاته في زيادة التضخم بأسعار تلك المواد، بما يؤثر سلباً في الناس العاديين، ومحدودي الدخل. حقيقة مؤكدة، تبقى واضحة، بالنسبة إلى جميع دول المنطقة، هي أن إيران غدت عضواً في النادي النووي، وستضعف في المستقبل إمكانية لجمها عن مواصلة تطوير صناعاتها النووية. ستكون إيران في الأيام القادمة الدولة المدللة من قبل المؤسسات الاقتصادية العالمية. والغرب الذي سوف يستثمر مئات المليارات سيكون مضطراً لغض النظر ولو جزئياً عن خروقات إيران المحدودة للاتفاق النووي الذي جرى توقيعه؛ ضماناً لمصالحه واستمرار استثماراته. كما سيغض الطرف عن كليشته المعتادة المتمثلة في الحديث عن حقوق الإنسان في إيران. وسيسرع توقيع الاتفاق، من انضمام إيران لمجموعة شنغهاي والبريكس، بما يعني أنها ستكون ضمن مركز الاستقطاب الذي تقوده روسيا الاتحادية. لكن ذلك لن يؤثر أبداً في علاقة الغرب الإيجابية بها. شأنها في ذلك شأن باكستان والهند وجنوب إفريقيا. بالنسبة لنا في مجلس التعاون الخليجي، فليس علينا سوى التمسك بالقول المأثور «ما حك جلدك...» فنبني قدراتنا الذاتية، متحسبين لأسوأ الاحتمالات، آملين أن ترعوي طهران عن التدخل في شؤوننا الداخلية، وأن تراعي ما يتطلبه الجوار من علاقات حسنة، تراعي مصالح جميع شعوب هذه المنطقة، ويكون من شأنها جعل خليجنا العربي، منطقة سلام، بعيدا عن التوترات والاصطفافات الإقليمية والدولية.