لم يكن مفاجئا، أن تتوصل مجموعة الخمسة +1، (الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي وألمانيا)، إلى اتفاق ينهي أزمة الملف النووي الإيراني. فكل المؤشرات، خلال الشهور التي مضت، كانت تشير إلى نية إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما على إنهاء هذه الأزمة، قبل انتهاء ولايته في الحكم. فسر كثيرون من المؤيدين للسياسات الإيرانية، توقيع هذا الاتفاق على أنه نتيجة لتحدي طهران، وفرضها سياساتها بقوة الأمر الواقع. لكن مثل هذا الاستنتاج، لا يتسق مع التحليل السياسي، ولا مع التجارب التاريخية، التي شهدتها المنطقة والعالم بأسره، في العصر الحديث. فالتطورات الأخيرة، أخذت مكانها ضمن تحولات دولية، ملحوظة، لم يكن الاتفاق على هذا الملف أولى خطواته، فقد سبقته تحولات كونية، لعل أبرز ملامحها، تطبيع العلاقات الأمريكية مع كوبا الاشتراكية، ورفع الحصار عنها. وأيضا، تنفيذ الرئيس أوباما وعوده، بالانسحاب العسكري من أفغانستانوالعراق. والأهم من ذلك كله تكرر الاعتراف من قبل عدد من المسؤولين الأمريكيين، بأن الكون يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، بقيادة أمريكية. وفيما يتعلق بإيران، موضوع حديثنا هذا فقد فصلنا في أحاديث سابقة دوافع التحرك الأمريكي الجديد نحو إيران. ولعل من المفيد التذكير بذلك باختصار شديد. لقد أوضحنا أن أهمية إيران بالنسبة للغرب، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية واستعار الحرب الباردة تكمن في أنها الطريق الآمن شرقا، إلى عموم آسيا، وقد منحها ذلك لقب «طريق الحرير». إنها أيضا النقطة العازلة بين الجليد الروسي، وما جرى التعارف عليه مجازا بالدب القطبي، وبين المياه الدافئة في الخليج العربي، حيث أضخم احتياطي للنفط فوق كوكبنا الأرضي. كما أن لها أهمية جيوسياسية، كونها تقع في القلب من القوس المطوق للاتحاد السوفييتي سابقا وروسيا الاتحادية حاليا، والمكون من باكستانوأفغانستانوإيرانوالعراق وتركيا. وأخيرا وليس آخرا، أنها من الدول الرئيسية المنتجة للنفط. ومنذ مطالع هذا القرن، أثبتت القيادة الإيرانية، للأمريكيين أن بالإمكان الاعتماد عليها، في الأزمات الكبرى، كالاحتلال الأمريكي لأفغانستانوالعراق. وفي كلا الاحتلالين، لعبت القوى الموالية لإيران في البلدين، دورا أساسيا في إنجاح العمليات السياسية التي أعقبت الاحتلال. كما أن للتنسيق الإيراني المباشر مع الأمريكيين دورا كبيرا مساعدا، في تسهيل عملية الاحتلال. تلتقي الاستراتيجيتان، الأمريكيةوالإيرانية، في العمل على إضعاف النظام العربي الرسمي، والحيلولة دون وجود دول عربية قوية. وقد أسهمتا واقعيا بسياساتهما، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تدمير العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن. ويهددان مصر وتونس. فإيران لم تتردد عن مد عناصر التطرف، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، بمختلف أشكال الدعم، وتشاطرها أمريكا، في إضعاف النظام العربي الرسمي، من خلال جمعياتها المشبوهة المنتشرة في عموم الكرة الأرضية، والتي تتلفع بشعارات حقوق الإنسان، والعفو الدولي، وما إلى ذلك من تسميات، تحمل أغطية إنسانية، لكن هدفها هو فرض المزيد من الهيمنة والإخضاع، على عموم المنطقة. ومن وجهة نظرهما فإن وجود نظام عربي قوي، سيشكل تهديدا للمصالح الدولية، التي تطمح في استمرار تبعية البلدان المتخلفة، لسياساتها الاقتصادية. كما يشكل تهديدا للسياسات التوسعية، التي تنتهجها طهران تجاه جيرانها العرب. ولسنا بحاجة إلى أدلة لتأكيد تدخلاتهما المباشرة، وغير المباشرة في الأوضاع الداخلية للبلدان العربية. لقد عادت روسيا الاتحادية مجددا بقوة للمسرح الدولي، وتم ذلك بالتزامن مع الصعود الكاسح للاقتصاد الصيني، وتشكيل منظومات دولية جديدة، اقتصادية وعسكرية، مناوئة للسياسة الأمريكية، كمنظومة البريكس وشنهغاي. ومع هذه العودة، برزت مجددا مناخات الحرب الباردة. فوفقا للتصريحات الأمريكية الأخيرة، على لسان وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري فإن روسيا الاتحادية تمثل حاليا أخطر تهديد حقيقي على أمن الولاياتالمتحدة. جميع هذه العوامل، تمثل أسبابا وجيهة لإعادة الاعتبار للجغرافيا الإيرانية، بما يتطلبه ذلك من مد للجسور وتطبيع للعلاقات السياسية مع الحكومة الإيرانية. وكان حسم قضية الملف النووي الإيراني، هو أول خطوة نحو تحقيق علاقات طبيعية وجديدة بين أمريكا والجمهورية الإسلامية. وهكذا جاء توقيع الاتفاق منسجما مع سياق التحولات في العلاقات الدولية. وليس من شك، في أن الاتفاق الذي جرى توقيعه هو أهم حدث تاريخي في إيران منذ قيام الجمهورية. وسوف تكون له إسهاماته المباشرة، في تغيير موازين القوى، داخل مؤسسة النظام الحاكم، لصالح ما عرف بالقوى الإصلاحية، التي جرى وأدها أثناء عهد أحمدي نجاد. وهنا يجدر التذكير أن الثورة الإيرانية اعتمدت على ثلاثة أضلاع: الضلع الأول هو رجال الدين الذين يتمركزون في قم، ويقودهم الامام الراحل الخميني. والضلع الثاني «البازار» ملاك التجارة وقادة الفعاليات الاقتصادية الخاصة، المتواجدون بكثافة في العاصمة طهران، وبقية المدن الرئيسية الإيرانية. أما المضلع الثالث فهم المهمشون في الأرياف، والذين لم تكن لهم صلة تستحق الذكر بالمدن الرئيسية. نجاح الثورة الإسلامية في إيران، نقل العلاقة بين «البازار» والمؤسسة الدينية، من التحالف السياسي إلى الشراكة الاقتصادية. وكلما تعزز دور رجال الدين في المؤسسة الاقتصادية، صاروا أكثر اقترابا من البازار. لقد حدث أول اختراق في المؤسسة الدينية، لصالح فكر البازار، المطالب بانفتاح اقتصادي أكبر، وبعلاقات أمتن مع الدول الغربية، مع وصول محمد خاتمي إلى سدة الحكم. ولكن مؤسسة «قم» تمكنت من لجمه، فجاءت بأحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة. ولم يكن التوازن طيلة الحقبة الماضية لصالح قوى الإصلاح. لقد لجمت مرة أخرى، أثناء الانتخابات التي أجريت عام 2009 وترشح فيها المهندس مير حسين موسوي لرئاسة الجمهورية. الآن أمام هذه القوى الإصلاحية فرصة لتحشد قوتها، ولتضاعف من فعالياتها الاقتصادية، ولتندمج بالكامل مع ثقافة رجال البازار. وسوف تستغل فرص عطش الشركات الأجنبية، للاستثمار في إيران، لتتحالف معها، بما يعزز إمكاناتها المالية والاقتصادية، وينعكس إيجابيا، على قدراتها السياسية، ويخلق بيئة مناسبة للتعجيل مجددا بتحركها. فإذا سيكون أول تداعيات هذه الأزمة هو التخلخل في العلاقة بين القوى التقليدية، التابعة للولي الفقيه، وبين القوى الإصلاحية الصاعدة، المنبثقة من تلك المؤسسة. سيتحقق مزيد من الانفتاح الاقتصادي والسياسي داخل إيران، بما يسهم في إتاحة المجال للنزعات القومية والدينية، المطالبة بحقوقها، للتعبير عن صبواتها، مستغلة حالة الانفتاح، والعلاقات الإيرانية الجديدة مع أمريكا والدول الأوروبية. وبالقدر الذي تتعزز فيه قوى الإصلاح في إيران، بالقدر الذي تبرز فيه سياسات جديدة تطالب بالنأي عن حزب الله وحركة حماس، ويتراجع الدعم السياسي للقيادة السورية. وبعدم إنهاك الخزينة الإيرانية، في التدخلات الخارجية. وفي هذا السياق، نذكر بالشعار الذي طرح في التظاهرات التي برزت في طهران عام 2009، «لا غزة ولا لبنان.. إيران إيران». ستتمسك مؤسسة الولي الفقيه في المدى المنظور بعلاقة جيدة مع روسيا والصين، وتواصل سياساتها السابقة، تجاه حزب الله وأنصار الله، والعراق وسوريا. لكن المعارضة لهذه السياسات، أو لبعضها سوف تتطور. وبالتوازي ستتطور علاقاتها بالغرب. وستعمد إيران إلى زيادة انتاجها من النفط. وليس من المستبعد أن يتجاوز هذا الانتاج الحصة المقررة لها من قبل الأوبك. وسيوفر لها ذلك مزيدا من السيولة النقدية، لكن ذلك سوف يسهم في انحدار أسعار النفط، إلى أشد مما هي فيه الآن. ولا جدال في أن زيادة الدخل القومي لإيران، سيجعل المجتمع الإيراني يقبل على المزيد من استيراد السلع الأساسية، بما يمكن أن يؤثر على الأسواق العالمية. وسيكون لذلك إسقاطاته في زيادة التضخم بأسعار تلك المواد، بما يؤثر سلبا على الناس العاديين، ومحدودي الدخل. حقيقة مرة، تبقى واضحة، بالنسبة لدول المنطقة، هي أن إيران غدت عضوا بالنادي النووي، وستضعف في المستقبل إمكانية لجمها عن مواصلة تطوير صناعاتها النووية. ستكون إيران في الأيام القادمة، الدولة المدللة، من قبل المؤسسات الاقتصادية العالمية. والكل سوف يتسابق على رضاها. الصينيون سيعملون على إبقاء المكتسبات التي جنوها أثناء فترة الحصار الدولي على إيران. والروس سيعملون على منع إيران من انتهاج سياسة تعتمد على تنويع مصادر السلاح، واحتكار ذلك لصالحهم. والغرب الذي سوف يستثمر مئات المليارات، سيكون مضطرا لغض النظر، ولو جزئيا عن خروقات إيران المحدودة للاتفاق النووي الذي جرى توقيعه، ضمانا لمصالحه، واستمرار استثماراته. وقد بدأ الفرنسيون والألمان التوجه نحو إيران، ووقعوا اتفاقيات اقتصادية معها، قبل توقيع الاتفاق الأخير بعدة أشهر. سيسرع توقيع الاتفاق، من انضمام إيران لمجموعة شنهغاي والبريكس، بما يعني أنها ستكون ضمن مركز الاستقطاب الذي تقوده روسيا الاتحادية. لكن ذلك لن يؤثر أبدا على علاقة الغرب الإيجابية بها. وسيكون شأنها في ذلك شأن باكستان والهند وجنوب أفريقيا، التي تشارك، بشكل أو بآخر، بالتشكيلين المذكورين. وبالنسبة لنا في المملكة، ليس لنا أمام هذه التطورات الخطيرة، سوى الاعتماد على قدراتنا الذاتية. فنحن في الوقت الذي نرحب فيه بهذا الاتفاق، نأمل أن يكون مناسبة، لكي تتبنى إيران سياسات جديدة تعتمد على احترام حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية. والنأي عن إلحاق الأذى بنا. علينا أن نسرع في بناء قدراتنا الذاتية، بهدوء والحرص على الدخول بقوة في النادي النووي، بما يتطلبه ذلك من إعداد علمي وتقني للقوى البشرية، ولاستكمال بناء المفاعلات، وتطوير البرامج، بما يجعلنا في وضع علمي متقدم، يسمح لنا بالتنافس مع القوى الإقليمية، التي تتبنى سياسات معادية لتطلعاتنا الوطنية والقومية.