لا ينتمي المحافظون في إيران إلى المدرسة القائلة باستبدال الدولة المستقرة ب «الثورة المستمرة»،إنما يميزون أنفسهم بنمط كثيف من التأطير الأيديولوجي للمقولات السياسية والاجتماعية. إذاً نحن لسنا بصدد عودة للبدايات التي صبغت سنوات الثورة الأولى. إن الخيار المحافظ سوف يعكس نفسه محليا بصفة أساسية. وفي السياق المحلي ذاته، فان هذا الخيار سيبدو جليا بالدرجة الأولى على صعيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولنتذكر أن الوعد بتحقيق حلم الفئات الفقيرة والمهمشة هو الذي حقق للرئيس الجديد محمود نجاد فرصة الفوز في السباق الانتخابي. وعلى صعيد السياسة الخارجية، فان الخيار المحافظ لن يجد ما يتمايز به عن الإصلاحيين، لأن هؤلاء قد سعوا أيضا خلال فترة وجودهم في السلطة لتطوير علاقات بلادهم مع العالم الإسلامي، بما في ذلك أقطار الوطن العربي. وإن تصعيد اللهجة ضد الولاياتالمتحدة، والقول بأن طهران لا تحتاج للعلاقة مع واشنطن، هو بمثابة تحصيل حاصل، ذلك أن النظام الجديد لا يتوقع بحال من الأحوال أي انفتاح أمريكي عليه، خاصة وأن الإصلاحيين أنفسهم لم يحققوا شيئا يذكر في مساعيهم لفتح ثغرة في جدار غياب الثقة مع واشنطن. والأمر لا يختلف فيما لو كان الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني قد قدرت له العودة لسدة الرئاسة. فالواضح أن معضلة العلاقات الإيرانيةالأمريكية هي معضلة بنيوية الطابع، ترتبط بجوهر الخيارات الأم لكلا الطرفين. ودعونا الآن نتحدث عن موقع إيران المحافظة في مقاربة الأمن في الخليج. يمكن القول إن المناخ المتوتر للعلاقات الإيرانيةالأمريكية (والذي قد يزداد توترا) سوف يعكس نفسه في صورة مساعي اقتراب إيراني من دول الخليج، وهذه مسألة أمكن تلمسها بعيد الحرب الأمريكية على العراق، وهي مرشحة الآن لمزيد من التواصل. في المقابل، يمكن القول إن التوتر السائد في مناخ العلاقات الإيرانيةالأمريكية سوف يرمي بقدر من الضغوط على الحراك الخليجي باتجاه طهران، ولكن دون أن يوقفه. إلا أن ما يمكن قوله في الوقت نفسه أن فرص تحقيق تقدم ملموس في العلاقات الإيرانية الخليجية هي اليوم أقوى مما كانت عليه بالأمس، ويعود السبب في ذلك إلى أن المحافظين هم من يمسك بالمفاصل الأكثر حساسية في خيارات إيران الداخلية والخارجية منذ ربع قرن وحتى اليوم، و بالتالي فان التفاوض المباشر معهم يعد أكثر قدرة على الدفع باتجاه ما يجب تفكيكه أو تطويره في معادلة العلاقات الخليجية الإيرانية. وفي السنوات الثماني الماضية أخذت دول الخليج، أو بعض منها، تشكو من عدم تطبيق ما يتم الاتفاق عليه خلال المحادثات مع بعض الرسميين الإيرانيين، وذلك بسبب عدم تمتع هؤلاء بقدر كاف من السلطة والنفوذ في المسائل جوهرية الطابع في الدولة الإيرانية. على صعيد آخر، سيبدو التعايش الأمريكي الإيراني الهش في الساحة العراقية في وضع أكثر حساسية. هذا التعايش سيبقى لأنه يمثل مصلحة مشتركة للطرفين، أو لنقل ضرورة لا غنى لأي منهما عنها. بيد أن مزيدا من الضغوط سترمي بنفسها على هذه المقاربة مع تولي المحافظين في طهران لعدد من الملفات الإدارية المباشرة. لا يجوز أن نعتقد أن التعايش الأمريكي الإيراني في العراق هو خيار الإصلاحيين وحدهم، لكن هؤلاء ظلوا خلال العامين الماضيين مسؤولين بصورة مباشرة عن إدارة عناصره، أو لنقل تفاصيله. وهذا أمر لا يخلو من مغزى. والأرجح أن المحافظين الإيرانيين كلما شعروا بضغط أمريكي في ساحة ما فسوف يعادلونه بضغط مماثل في الساحة العراقية، وهذه معادلة لم يكن الإصلاحيين ليقتربوا منها. والعراق لن يكون ساحة اختبار للعلاقات الإيرانيةالأمريكية وحسب، بل كذلك الإيرانية العربية، ولكن ضمن معادلة مختلفة عن تلك الحاكمة للعلاقة بين واشنطنوطهران. على صعيد الملف النووي الإيراني، اتضح منذ البدء أن لا تمايز في الخطاب بين الإصلاحيين والمحافظين. وهذا يعود أساسا إلى أن هذا الملف يدار مركزيا من أعلى مصادر القرار في إيران. بيد أن ما يمكن قوله في الوقت نفسه هو أن الاتجاه المحافظ لديه مقاربة أكثر تجليا لخيار إيران العسكري، حيث يمثل تعزيز وتطوير القوة العسكرية الإيرانية جزءاً أصيلا من أيديولوجيته.وعلى ضوء هذه الخلفية أو قريبا منها، يمكن أن نتوقع مزيدا من الاقتراب الإيراني من روسيا. وهذه قضية تلامس جوهر مقاربة الأمن في الخليج، أو لنقل البيئة الدولية لهذا الأمن، وهي سترمي بالضرورة بتداعياتها على العلاقات الإيرانية الخليجية. ويمكن أن نعيد صياغة هذا القول على النحو التالي: إن مزيدا من التطلع الإيراني لتعزيز القدرات العسكرية سيعني مزيدا من الاقتراب من موسكو، ومزيدا من الاقتراب من الروس سيعني زيادة الضغط على الخيارات الأمريكية في المنطقة، التي تمثل جزئيا منطقة توافق أو تعايش خليجي - أمريكي، الأمر الذي سيضع دول الخليج أمام معادلة تفاضلية غير متكافئة على مستوى الخيارات، سيكون المتضرر فيها على الأرجح مسار العلاقات الخليجية - الإيرانية. من جهة أخرى، إن احتمال دخول إيران في برامج جديدة للتسلح على النمط الذي شهده مطلع تسعينيات القرن الماضي قد يرفع فاتورة الأمن في عموم المنطقة، خاصة مع الانتعاش غير المسبوق الذي تشهده أسعار النفط. بالطبع لا أحد يمكنه الجزم بأن إيران في طريقها للدخول في برامج معززة للتسلح، بيد أن ارتفاع مناخ التوتر في العلاقات الإيرانية - الأمريكية من شأنه أن يرفع من هذا الاحتمال. ولقد كانت مقولة أن طريق طهران يمر عبر بغداد قد وجدت لها صدى في مناخ السياسة الإيرانية، لكن أحدا لم ير بالفعل أن إيران على وشك الدخول في مواجهة مع الولاياتالمتحدة. ودفع الإيرانيون هذا الخيار بعيدا عنهم عندما استطاعوا نقل معادلة العلاقة مع واشنطن إلى الداخل العراقي نفسه، أو هكذا على الأقل أعتقدت طهران، وربما أصابت في جزء من هذا الرهان، إذ بات واضحا منذ البدء أن لا استقرار للعملية السياسية في العراق الجديد بعيدا عن التوافق الإيراني الأمريكي. هكذا سارت الأمور منذ سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين وحتى اليوم. وهذا المسار السياسي أبطل مفعول مقولة أن طريق طهران يمر عبر بغداد، على الأقل في مدلولها المباشر الذي يعني صداما أمريكيا إيرانيا يفضي لسقوط السلطة الحاكمة في طهران. اليوم تتعرض هذه المقولة لإعادة إختبار يعبر عن نفسه في مدى قدرة التعايش الإيراني الأمريكي في العراق على هضم المتغير الذي أتت به صناديق الاقتراع في طهران. بالطبع، لا بد أن نكون حذرين، فمن جهة تعد معادلة التعايش ضرورة تفرضها المصالح الحيوية للطرفين، كما مصلحة العراق نفسه. ومن جهة أخرى، فإن ردود الفعل الأمريكية على انتخاب الرئيس محمود نجاد قد أتت على درجة ملحوظة من الشعور بالخيبة والتشكيك في شرعية الانتخابات التي أوصلته. وفي خطوة لاحقة، انطلقت من واشنطن موجة متصلة من الاتهامات الموجهة للرئيس نجاد، كان أهما التورط في عملية خطف الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران في العام 1980. على أن ردود الفعل الأمريكية لا تعكس على الرغم من ذلك تحولا جديدا في المنظور الأمريكي تجاه طهران، غير أن المناخ الجديد أعطى قوة دفع إضافية للأصوات الداعية لتصعيد الموقف مع السلطة الإيرانية. تصعيد الموقف هذا قد لا يعثر على معطى يستند إليه في الاتهامات الموجهة للرئيس الإيراني الجديد. بيد أن الملف النووي الإيراني قد يشكل مدخلا لمثل هذا التصعيد - في حال اعتمد بالفعل -. عند هذه النقطة قد تجد الولاياتالمتحدة نفسها وجهاً لوجه مع أوروبا السائرة نحو التسوية الوسط مع طهران، فأوروبا وتحديدا الأوروبيات الثلاث (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) لا تجد نفسها في وضع قادر على تحمل تبعات تصعيد أمريكي إيراني مفتوح، أو لنقل مباشرة ضربة عسكرية أمريكية ضد إيران. إن مثل هذا التطور يلامس مباشرة مصالح أوروبية عريضة في المنطقة، كما سينظر إليه على أنه شهادة وفاة لمساعي أوروبا الخاصة بالملف النووي الإيراني، بل للجهد الأوروبي المديد الدافع باتجاه تغليب منطق الاعتدال في خيارات إيران الدولية. نحن هنا بصدد تباين أوروبي أمريكي سيفوق ذلك الذي أفرزته الأزمة العراقية ولا زال يرمي بتداعياته على أكثر من صعيد. ذلك أن أوروبا وعلى الرغم من معارضتها للحرب على العراق فإنها لم تكن طرفا مسبقا على خط التسوية، بل إن الأزمة العراقية لم تشهد مسارا تفاوضيا متعدد الأطراف على النحو الذي يشهده اليوم الملف النووي الإيراني. قد يكون أقرب تشبيه لموقع أوروبا من هذه الأزمة هو الكتلة الإسفنجية، التي رغم مرونتها تبقى ذات طبيعة عازلة. والمرونة هنا لا تعود لطبيعة المقاربة الأوروبية للعلاقة مع إيران وحسب، بل كذلك لطبيعة العلاقات الأوروبية الأمريكية ومستقبل التحالف بين ضفتي الأطلسي. ولهذا السبب يمكن التأكيد على أن ما تنهض به أوروبا ككتلة عزل أو امتصاص للتوترات الإيرانيةالأمريكية ليس له نظير ضمن أي من الدول أو التكتلات الإقليمية الأخرى. روسيا هي الأخرى تجد نفسها طرفا أصيلا في معادلة العلاقات الأمريكيةالإيرانية، إنما ضمن سياق مغاير لذلك الذي تجد أوروبا نفسها فيه، أو لنقل ضمن مداخل وحسابات مختلفة. كما سبق وأشرنا، فإن إيران المحافظة قد تتجه لتعزيز علاقاتها مع الروس ضمن سقف سيحدده جزئيا مسار العلاقات الإيرانيةالأمريكية. وروسيا التي تمثل إيران أحد أكبر مستوردي انتاجها العسكري ستبقى حريصة على منع أية تفجرات في بيئتها الأمنية. هذا فضلا عن أن إيران تعني الكثير بمعيار الحسابات الاستراتيجية الروسية في المنطقة، خاصة بعد أن خسر الروس آخر مواقعهم في العراق، وبعد أن حالت الحسابات الصعبة دون حصولهم على موطئ قدم ذي مغزى في الداخل الخليجي، على الرغم من كل ما يقال على هذا الصعيد منذ حرب الخليج الثانية وحتى اليوم. وفي نهاية المطاف، فإن الروس قد يستخدمون حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي مشروع قرار أمريكي بحق إيران عبر الأممالمتحدة. وحيث إنه لا شي دون مقابل في السياسة، فإن تقاربا إيرانياروسيا في آسيا الوسطى والقوقاز، وربما في العراق على نحو أقل، يمكن توقعه إذا ما قدر للعلاقات الأمريكيةالإيرانية أن تمضي نحو مزيد من التوتر. وهذه قضية سوف تعكس نفسها على تفاعلات إيران شمالا وجنوبا، كما على علاقتها بباكستان. وبصفة خاصة، فإن مزيدا من الاقتراب الإيراني الروسي لا بد وأن يرمي بشيء من الضغوط على مقاربة إيران للعلاقة مع دول الخليج. وإذا ما سارت الأمور على هذا النحو، فإن العلاقات الإيرانية الخليجية ستقع في وقت متزامن تحت تاثير نوعين متقابلين من الضغوط : ضغط التوترات الأمريكيةالإيرانية وضغط الاقتراب الإيراني الروسي. وإذا ما أضيفت إلى ذلك إعادة بناء محتملة للخيارات الإيرانية في العراق على نحو راديكالي، فإن بيئة العلاقات الإيرانية الخليجية ستمضي باتجاه مزيد من التعقيد. هذا لا يلغي المقولة التي ابتدأنا بها هذا المقال، والتي تفيد بأن مزيدا من التوتر في العلاقة بين واشنطنوطهران سيدفع هذه الأخيرة باتجاه مزيد من الاقتراب من دول الخليج، على النحو الذي حدث بعيد الحرب الأمريكية على العراق، إلا أننا هنا أمام معادلة ذات حدين متقابلين. وبصورة محددة، فإن توترا محسوبا في العلاقات الأمريكيةالإيرانية سيكون عامل دفع لطهران للتوجه نحو دول الخليج، إلا أن توترا غير محسوب سيكون له على الأرجح مردودا عكسيا على مسار هذه العلاقات. وعلينا أن نفرق هنا بين الأثر الذي تفرزه التوترات الأمريكيةالإيرانية على علاقة طهرانبموسكو وبين الأثر الذي تخلقه في مناخ العلاقة مع دول الخليج. إن المنطلقات والسياقات الاستراتيجية ستبقى متباينة ضمن الحالين. وهذا يعود جزئيا إلى التمايز التقليدي بين فضائي العلاقات الإيرانية الخليجية و الإيرانية الروسية، كما يعود بطبيعة الحال إلى السياقات البنائية الكلية للخيار الدولي الخليجي. بالطبع، نحن لا نريد رسم صورة تشاؤمية لمستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية، بيد أن هذه المقولة على الرغم من طابعها التحليلي الافتراضي تبقى عنصراً لا غنى عنه في مقاربتنا لأمن الخليج في ظل إيران المحافظة.أو لنقل في قراءتنا لمتغيرات هذا الأمن. إننا بالفعل أمام لحظة تستحق الكثير من التوقف والتحليل والاستنتاج، ومن ثم الفعل القادر على التاثير على حركة الأحداث. إن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هنا هو: ماذا يمكن لدول الخليج أن تعمله من أجل السيطرة على المضامين القلقة في متغيرات الأمن الإقليمي؟ كيف تستجيب استجابة فاعلة لهذه المتغيرات بما يحمي نسيج العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف في المنطقة، وبما يصون في الوقت نفسه بيئة الاستقرار الإقليمي الراهن، رغم نسبيته؟ كيف لنا أن نتعامل مع متغير تابع في ظل سيولة متدفقة للمتغير المستقل أو المتغير الأم نفسه، ونعني به عراق ما بعد صدام حسين، هذا إذا جاز لنا أن نطرح ذلك بالمعنى التحليلي الافتراضي. إنما في الأحوال كافة، نحن بصدد متغيرين كبيرين يفرضان الآن نفسيهما على بيئة الأمن الإقليمي وعلينا قراءة هذه البيئة في ضوء إفرازاتهما، وما يطرحانه من إيحاءات ودلالات.