تعرف الأشياء بتضادها، قول فلسفي مأثور، يعني أن الشيء يدرك بما يميزه عن غيره من الأشياء. والهوية من هذا المنظور تعني خصائص تاريخية ولغوية ونفسية، تؤدي إلى الفصل بين جماعة من الناس وأخرى. هذه الخصائص هي نتاج تفاعل بين تقاليد وموروثات تراكمت عبر حقب طويلة. وتعكس تفاعلا مع أوضاع عالمية متغيرة، وموجات ثقافية، ونماذج حضارية، تفرض التعامل بخصوصية معها، وتمنحها هوية جديدة. وإذن فالهوية نتاج تاريخي وجغرافي، لا يتكون نتيجة الرغبة بالعيش المشترك، بل نتيجة للعيش في ظل وضع أنشأه التاريخ. ولذلك فهي ليست ساكنة، كونها نتاج حركة وتعاقب. وهي خاضعة لقوانين التطور والتحول والتراكم المفضي إلى التجدد المستمر في مكونات الشخصية، تتجدد، كما تتجدد اللغة والمواريث. المجتمعات الإنسانية، شهدت حضارات كبرى، تركت آثارها في المجتمعات التي نشأت بها، وفيما حولها وعلى البشرية جمعاء. وكان النصيب الأكبر من ذلك التأثير للشعوب التي قامت تلك الحضارات على أرضها، والمناطق المحيطة بتلك الحضارات، حيث أسهمت في صياغة هويات المجتمعات التي بزغت فيها، وتركت بصماتها واضحة، في تاريخها. وفي الوطن العربي، نشأت حضارات عريقة منذ فجر التاريخ، في وادي النيل وما بين النهرين، وبلاد الشام، فرعونية وفينيقية وبابلية وآشورية... بقيت آثارها حاضرة، مجسدة إسهاماتها في أشكال فلكلورية وثقافات وتقاليد، تفاعلت مع الحضارة التي بزغت بانبثاق رسالة الإسلام، مثرية، مع تراكمات أخرى هوية العرب. شأن الهوية، هو شأن كثير من الظواهر الاجتماعية الأخرى، تبدأ من الأسفل، وتتدرج صعودا إلى الأعلى. فالفرد يولد في منزل، يصبح بالنسبة له مركز العالم. وتصبح بصمته مرتبطة بالعلاقة الحميمة التي تربطه بالأهل والمنزل. ثم يتدرج رويدا رويدا، لتصل إلى الانتماءات الوطنية. وكلما تعزز الاجتماع الإنساني، توسعت دائرة الانتماء. وبالقدر الذي يتعزز فيه مفهوم الانتماء للوطن، بالقدر الذي تتراجع فيه الانتماءات الأخرى، لصالح الهوية الوطنية الجامعة. ومع الانتماء للوطن، تنكمش تقاليد وثقافات، وتتراجع قيم ومفاهيم. يتغير مفهوم البطولة من الدفاع عن القبيلة واستحضار لذاكرة الأطلال، إلى دفاع عن الوطن وأمنه واستقراره. في البلدان الأوروبية، انتقل مفهوم الوطن، إلى حالة أرقى هي هوية الأمة التي يربطها التاريخ والجغرافيا ووحدة الاقتصاد. وكان عصر القوميات هو التعبير عن حالة الارتقاء هذه. وأصبحت هوية الأمة هي الهوية الجامعة لشعوب هذه البلدان. وتضاءلت الهويات الأخرى، ممتزجة مع الثقافات والتقاليد الوليدة، لتصبح عنصر إثراء بدلا من أن تكون عبئا عليها. في العقود الأخيرة، رأينا انتقالا في أوروبا، تخطى اللغة والثقافة والتاريخ، وكانت ثمرة هذا التطور قيام الاتحاد الأوروبي. في واقعنا العربي، تكتظ مجتمعاتنا العربية، بأقليات قومية، وطوائف، وشبكة من العلاقات القديمة. وتختزل ذاكرتنا التاريخية انتماءات إلى حضارات سحيقة، كانت لها إسهاماتها في التطور الإنساني. لكن الحركة التاريخية تجاوزتها منذ زمن بعيد. بعض الأقليات القومية والطوائف المذهبية، لها فلكلورها الخاص، وتقاليدها الخاصة، وليس في ذلك ضير، إن لم يكن على حساب الهوية الجامعة للوطن والأمة. بل العكس هو الصحيح، فهذا التنوع هو قوة، حين لا يكون على حساب الانتماء للهوية الجامعة. أما حين يكون عبئا عليها، فإن التنبه لمخاطر ذلك على الأمن الوطني يصبح مهمة وطنية، لا تقبل المجاملة والتسويف. الهويات الجزئية، ينبغي أن تصب مياهها النقية في مجرى النهر الأكبر. أما أن تكون مياهها آسنة وراكدة، فإن ذلك يستوجب مراجعة واعية وجذرية للموقف منها، بهدف تنقيتها من الترسبات المعوقة للنهضة، وبشكل خاص، تلك التي تهدد وحدة الوطن وأمنه واستقراره. وجود مذاهب إسلامية عديدة، في العالم الإسلامي، هو توسيع لبوابات الاجتهاد، وإثراء للفقه. والإقرار بالتعددية يضيف إلى الأمة، ولا يأخذ من حصتها. ومشكلة الطوائف ليست فقهية، والخلافات في أساسها تعود إلى مواقف سياسية أكثر منها دينية، والتعامل معها ينبغي أن يكون على هذا الأساس. موقف الطائفة يكون عبئا على الوطن، حين يصبح سلبيا من التاريخ العربي، برموزه وتجلياته. الموضوع هنا ليس دينيا ولا فقهيا فحسب، ولا يتعلق بالحرية في ممارسة الطقوس. إنه يتعلق بتاريخ الأمة، وبالرموز الزاهية التي صنعت فجره. إن إدماج طقوس تسيء للتاريخ العربي، سيحسب دون شك، ضمن المحاولات المشبوهة لتجريد الأمة من مقوماتها، حين تجعل من متاريس صمودها وكبريائها خاوية، عن عمد وسابق إصرار. ينبغي في هذا المفترق من الطرق، الذي تتصاعد فيه حمى التفتيت والبلقنة في أجزاء كثيرة من بلداننا العربية، التمسك بالوحدة الوطنية بالنواجذ، ورفض التشرنق في الغيتوهات الضيقة. تجاوز شبكة العلاقات القديمة، هو السبيل إلى تضعضع جملة المرتكزات التي أسست عليها. إن هذا التجاوز هو وحده القادر على الإسهام في تشكيل بنيات جديدة على أسس يكون من نتائجها انبثاق ثقافات وأعراف وتقاليد جديدة، تختزن في رحمها مخاض الولادة لهوية، تقوم على أساس المصالح المشتركة. لقد لعبت الهويات الجزئية لازمة عندما بدأ الإنسان في التجمع والاستيطان، في خضم احتدام صراعات من أجل الحصول على الكلأ والماء. وكانت آنذاك الحصن المنيع الذي تتمترس خلفه المجموعات البدائية، دفاعا عن كينونتها، أمام هجمات الأغراب. أما وأن التطور الإنساني، قد أفرغ تلك الهويات من مبررات وجودها، وجعل من تجاوزها أمرا ملحا، فإن محاولات بعثها، والتشبث بها، يغدو فعلا معوقا لمشاريع التنمية والنهوض. الهوية الجامعة، ناتج وحدة مجتمعية، تتسق مع التحولات الإنسانية المتجهة نحو كتل كبرى من الشعوب. وهي التي بمقدورها نقل المجتمع العربي، من واقعه المتخلف إلى مجتمع حديث متقدم. وأيضا لكونها تتسق مع اقتصادات الأبعاد الكبيرة. وإذا ما قمنا بمقاربة للهويات الجامعة والهويات الجزئية، فإن الأولى جامعة، تزج بطاقات الشعب بأسره في مشاريع البناء بينما تجعل الهويات الجزئية، من أبناء الوطن كتلا هلامية متناحرة، تسعى كل كتلة للاهتمام بشأنها الخاص، وأوضاعها الخاصة. تنعزل الهويات الجزئية في «غيتوهات»، لتمارس طقوسها وتقاليدها خارج التاريخ. والنتيجة المنطقية لسيادة منطق الهويات الجزئية، هو التناحر والصراع، بين أبناء الوطن الواحد، وقيام كانتونات معزولة عن بعضها البعض. ومن أجل ضمان استمرار تلك الكانتونات، وبقائها في حالة عداء دائم مع المجتمع الذي تعيش فيه، وفي ظل العزلة والغربة، لا مناص من الاستتباع للقوى الخارجية، لتحميها على حساب مصلحة الأوطان، وتغييب التنمية والإرادة الحرة. ويكون الحديث عدميا، وزائفا في ظل كانتونات المحاصصات والقسمة، عن التنمية والتقدم، كما هو عدمي وزائف الحديث عن السيادة والاستقلال والحدود العصية على الاختراق. في الهوية الجامعة: الهوية الوطنية، يصبح الحديث عن مجتمع حديث تطابقا بين المعنى والواقع وبين المضمون وتماهياته. في الهوية الجامعة، يحدث تفاعل مبدع، بين الزمان والمكان، بين التاريخ والجغرافيا فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الأصيلة والحية في التاريخ، بما في ذلك الإسهامات الفكرية والثقافية الإنسانية العالمية، لإثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل. أما الهوية الجزئية، فإنها انتقائية، في علاقتها بالتاريخ، كونها تختار منه، ما يعزز عزلتها وانغلاقها. أما فيما يتعلق بما هو إنساني وعالمي، فإنها منغلقة بامتياز على عطاءاته وإبداعاته. الهوية الجامعة، بطبيعتها تجريبية نقدية، تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف المعرفي، لخلق مستقبل أفضل للجميع. أما الهوية الجزئية، فإنها استقرائية، تُخضع التاريخ لتفسيراتها الخاصة، المتكلسة والمتبلدة. إنها تعتقد بمعرفتها لكل شيء، وخبرتها في كل شيء، في حين أنها في حقيقتها تغفل عن أبسط أبجديات القراءة. أما علاقتها بالتفكيك والتحليل، فإنها خارج هذه الدائرة. وهي لا تتورع عن الإفصاح عن عدائها الصريح للتاريخ ولرموزه وتجلياته. وإن أدغمت ذلك في بعض الأحيان، فإنها تفعل ذلك عن عمد، ومن منهج باطني، لن يتردد في التكشير عن أنيابه، متى ما أتيحت له الفرصة في تحقيق ذلك... وتجربة العراق «الجديد» ماثلة للعيان على كل حال. في تاريخنا العربي، مثلت رسالة الإسلام هوية جامعة للمؤمنين، وبالإسلام تحققت فكرة الأمة وتطور الانتماء العربي الجامع، من إرهاصاته الجنينية، حيث الاعتداد بالعرق والنسب، إلى ارتقاء بالهوية، من حالة الانغلاق، إلى اعتبار الدين واللغة عنصرين رئيسيين في تكوين الأمة حيث علمنا الرسول الأعظم «أن الرب واحد، والأب واحد والدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي باللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي» وهكذا انتقل العرب من عصر العصبية، والانغلاق والتقهقر إلى الخلف، إلى هوية جامعة، تحقق فيها تفاعل إنساني، خلاق مكن العرب من الاقتحام بجيوشهم الأرض، ليكونوا دولة مترامية الأطراف. بعد ما عرف بالربيع العربي، شهدنا مرحلة جديدة في التاريخ العربي، بدأت بحركات احتجاجية لتتحول سريعاً، إلى انقسامات وتفتيت وحروب أهلية، أكلت الأخضر واليابس في عدد من الأقطار العربية، لتترك بصماتها على البقية الباقية، ممن لم تمر عليها عواصف «الربيع». وقد كشفت الأحداث الأخيرة مجددا، أن الهويات الجزئية، لا تحافظ على الأوطان، بل هي من أسباب ضياعها. الدولة الوطنية، كظاهرة تاريخية، ليس بالمقدور تجاوزها إلى الأعلى، من دون إيجاد مناخات اقتصادية واجتماعية وسياسية تمكن من ذلك. وأن الأساس هو بناء هذه الدولة. وهي بوضعها الحالي مثقلة بالكثير من المشاكل. والمعالجة العربية الصحيحة، تأتي في تنمية موارد وطاقات الدولة الوطنية، صعوداً إلى الأعلى. لقد أكدت التجربة التاريخية أن الكيانات الصغيرة، هي الأضعف، في مقابلة استحقاقات التنمية، والتطور السياسي والاجتماعي، وأن المجتمعات التي تطمح لمضاعفة قدراتها التنموية، تلجأ إلى الاندماج بكتل أكبر. لن يكون لأي من أبناء هذه الأمة مستقبل مشرق، وغد عزيز، إلا بإطلاق معاول الهدم لروح الكراهية والتكفير، ورفع أغصان الحب والفرح مرددة أنشودة الوطن، الذي نبنيه، ليعانق مركز شروق الشمس. ومن خلال نمائه، تصبح مطالب العدل والمساواة والعيش الكريم، لكل المواطنين العرب جديرة بأن ترفع أعلامها، ترسيخا لمفهوم الهوية، لا خروجا أو تنكرا لها.