توطئة: المكان بوصفه علامة لغوية هو أحد شظايا الجذر اللغوي (ك ون)، وقد جاء في لسان العرب “مكان: في أصل تقدير الفعل (مفعل) وهو موضع لكينونة الشيء فيه” وموضع الشيء، أي المحل الذي يحل فيه ويتموضع، والفضاء الذي يحيط به، ويحدد موقعه بالقياس إلى شيء آخر. والمكان بوصفه رقعة جغرافية إنما يعني الامتداد والاتساع للمحل والفضاء الذي يحيط به بما يحمله من علامات جغرافية مرتبطة بتشكيل هوية المكان، وهوية الإنسان الذي يعيش عليه” وإن أي تغييرات قسرية (قهرية) تحدث في المكان من شأنها أن تحدث انشراخات في الشفرة العلائقية بين الإنسان والمكان”. والأمكنة وفق السياق المتقدم، هي الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان ويمارس نشاطاته المختلفة. غير أن المكان يتجاوز هذه الدلالة المعجمية إلى دلالات أوسع في منظومة التكوين الفكري للإنسان، وهذه هي الرؤية التي اشتغل عليها الباحث في تتبع دلالات المكان في تعزيز الانتماء إلى ثوابت الهوية الثقافية الوطنية بشكل عام منطلقًا من رؤيتين أساسيتين: الأولى: المكان بوصفه دلالة انتماء لا بوصفه رقعة جغرافية محضة الثانية: المكان بوصفه منتجًا لمكونات الهوية الثقافية الوطنية. 1- المكان بوصفه دلالة انتماء: الوطن دلالة (سيميائية) يكتسبها المكان، تحيلنا إلى علاقات ارتباط الإنسان بالمكان بوصفها تعبيرًا عن انتمائه للمكونات المادية والمعنوية للمكان، وهذا الانتماء هو أحد أهم مرتكزات تشكيل هوية الإنسان، تتجسد في حزمة من الدلالات مثل: الاطمئنان، الراحة،الحب، الحماية.... وهذا ما يفسر لنا تعاطف الناس مع أوطانهم (الأمكنة) على مستوى الأحداث الداخلية والخارجية كالأحداث السياسية والثقافية والرياضية.... ويتشكل هذا البعد الدلالي للمكان (الوطن) عبر السياق الزمني من حياة الإنسان بوصف الزمن على حد تعبير باختين هو “البعد الرابع للمكان” ضمن جدلية العلاقة التاريخية بينهما. ويمكننا استشراف مضامين هذه الدلالة من زاويتين: - استقرار الإنسان في المكان. خاض المكان رحلة طويلة عبر حقب التاريخ الإنساني وتعرض “لفاعليات الصيرورة وتحولاتها لكي ينتقل من الفضاء الوحشي إلى الفضاء الإنساني وفق الرؤية (الميثولوجية) الذي تتوافر فيه دعائم الاستقرار والأمن” من خصوبة الأرض ووجود مياه الأمطار والغابات والبحار ثم المياه الجوفية وأخيرًا ثروات الأرض الباطنية. وهذه هي نقطة التحول التي تحيل المكان في منظور الإنسان من مجرد دلالة على رقعة جغرافية إلى دلالة وطن (انتماء). والإنسان بوصفه “الكائن الأكثر وعيًا بالمكان يمتلك حساسية مكانية تتيح له القدرة على انتظام المكان بالإقامة فيه” والتاريخ البشري يثبت ان الإنسان هجر مكانه حين لم يجد فيه مقومات استقراره وأمنه. لقد أوجدت دعائم الاستقرار والأمن في المكان (الوطن) عبر مراحل التاريخ تناميًا مضطردًا في سلوك الانتماء للمكان (الوطن) توارثته الأجيال وحافظت عليه إلى يومنا هذا - تفاعل الإنسان مع المكان. يلجأ الإنسان في كل المجتمعات البشرية بعد استقراره في المكان إلى تسخير معطيات المكان في تحقيق متطلبات العيش له مستخدمًا إمكاناته العقلية والمادية موجدًا من خلالها حالة من التفاعل المتنامي بينه وبين المكان الذي “لا يعد عاملًا طارئًا في حياته وإنما معطى (سيميوطيقي) “إذ لا يتوقف حضوره - أي المكان -” على المستوى الحسي وإنما يتغلغل عميقًا في الكائن الإنساني حافرًا مسارات في مستويات الذات عنده ليصبح جزءًا حميميًا منه “ذلك لأن المكان هو “الفسحة أو الحيز الذي يحتضن عمليات التفاعل بين الإنسان والعالم من حوله”. إن انتقال المكان من موقعه الفيزيائي إلى الموقع الثقافي مرّ من خلال الكائن الإنساني نفسه “لأن العلاقة بينهما تتسم بالالتصاق والتلازم” مما يعني الارتباط الجذري بينهما بفعل الكينونة. ولا تقتصر علاقات التفاعل بين الإنسان والمكان على تأثير الإنسان على المكان فحسب بل إن “المكان يحفر في الإنسان خصائصه وملامحه. إذن فالعلاقة بين الإنسان والمكان هي علاقة تفاعلية قائمة على أساس” قانون الفعل ورد الفعل”. وعلى هذا الأساس فإن ما يقوم به الإنسان في المكان (الوطن) من نشاطات زراعية وصناعية وعمرانية وثقافية هو ما نسميه تفاعل الإنسان مع المكان، وبقدر ما يتنامى هذا التفاعل يتنامى معه شعور الارتباط بالمكان (الوطن) متمثلًا في عدد من السلوكيات والقيم والاتجاهات الإيجابية المتوالدة عبر التاريخ الإنساني مثل المحبة، الاعتزاز، الولاء، الانتماء، البناء، وهي في محصلتها الأخيرة صورة من صور هوية الإنسان وانتمائه للمكان وهو ما يفسر لنا مثلًا إصرار الإنسان على مواصلة عمليات البناء المادي والفكري وخلق صورة مشرقة للمكان (الوطن) للدلالة على إيجابية التفاعل بينه وبين المكان (الوطن) أو بالأصح بينه وبين هويته. إن الإنسان وفق تعبير (يوري لوتمان) “يخضع علاقاته الإنسانية ونظمها لإحداثيات المكان” وتشابكاتها الدلالية. وهكذا فإن الباحث يرى أن التفاعل بين الإنسان والمكان علاقة يتمظهر فيها تعزيز الانتماء إلى الهوية الوطنية بأبعادها الكلية. 2- المكان بوصفه منتجًا لمكونات الهوية الثقافية الوطنية إن الإنسان أثناء عمليات تفاعله مع المكان يخضع علاقاته الإنسانية ونظمها لإحداثيات المكان وتشابكاتها الدلالية على نحو ما أشير إليه سابقًا فيضفي على “الأفكار صفات المكان” مستخدمًا العديد من “منظوماته الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية” تتلاقح مع بعضها مكونة ملامح مهمة لهوية الإنسان الثقافية الوطنية. ويمكن إجمال هذه المكونات في الآتي: 1- الثقافة: إن الدلالات الشائكة والمتشابكة لمفهوم الثقافة في عصرنا الراهن جعلت البحث يركز على أبرز ملامح الثقافة الناتجة عن تفاعل الإنسان مع المكان ويمكن تمثيلها بالآتي: (أ) العادات والتقاليد: في أي مكان في العالم يعد الإنسان المساس بعاداته وتقاليده مساسًا بهويته الثقافية الوطنية فهي ثمرة من ثمرات تفاعلاته مع المكان (الوطن) الذي حفر فيها من ملامحه وخصائصه عبر مد طويل من الأجيال، فعادات وتقاليد العمل والزواج والموت والملبس والمأكل والأعراف هي في مجملها ذات ارتباط وثيق بمكونات المكان (الطبوغرافية) لذلك فإن الإنسان يعتز بها ويدافع عنها بوصفها أحد ملامح هويته الوطنية. معتبرًا إن الحفاظ عليها حفاظ على هويته الثقافية الوطنية وعلى مدى مصداقية انتمائه إليها، غير أن حركة التطور الزمني والمعرفي تفرض عليه تهذيب وتشذيب عاداته وتقاليده أو حتى إتلاف ما هو فاسد منها وتلك عملية طبيعية لا تنقص من مكانتها لدى الإنسان. (ب) الفنون والآداب والمعارف وشأن هذه شأن العادات والتقاليد، فهي منتج مهم لتراكم العلاقات التفاعلية بين الإنسان والمكان (الوطن) يحفر فيها المكان من ملامحه وخصائصه كما فعل ذلك في العادات والتقاليد، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح عند البشرية في منحوتاتهم وأزيائهم ولوحاتهم التشكيلية وفنونهم المعمارية والزراعية ومصنوعاتهم الحرفية وفنونهم الغنائية وتراثهم الشعبي وآدابهم الشعرية والنثرية ومعارفهم العلمية المختلفة. إنها ليست أحداثًا عارضة في حياة الإنسان بل هي جزء أساسي ومهم في منظومة التكوين الثقافي والفكري له متغلغلة فيه، وبشمولية أكثر هي أحد أهم مرتكزات مكونات الهوية الوطنية لديه التي تربطه بالمكان (الوطن) وتزيد من تنامي تعزيز الانتماء لديه. 2 الخصوصية وتنوعها تكتسب مناشط الإنسان المادية والفكرية الناتجة من عمليات تفاعله مع المكان خصوصية مستمدة من خصوصية المكان، هذه الخصوصية هي احد ملامح الهوية الوطنية له، ويتجسد حضورها عنده في الاعتزاز بها والترويج لها على المستوى الداخلي والخارجي. لذلك نجد شعوب العالم يدأبون على عكس نتاجاتهم الحضارية المادية والثقافية في المحافل الدولية والإقليمية والمحلية ويضمنونها أدبياتهم المكتوبة والمسموعة والمرئية. ومما يزيد من قيمة وثراء هذه الخصوصية هو تشكلها من تنوع الخصوصيات الداخلية التي تمنحها الأمكنة الداخلية المتنوعة في ثيماتها (الطبوغرافية والثقافية والأنثروبيولوجية). إن التنوع في خصوصية الهوية الثقافية الوطنية لا يعني إضعاف الخصوصية الأم وإنما هو رافد مهم من روافد ثراء الهوية، وهذه السمة بخاصة هي احد عوامل اعتزاز الإنسان وتنامي ارتباطه وانتمائه لهويته الوطنية على المستوى الداخلي والخارجي. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو كيف يمكن لخصوصية المكان أن لا تعيش في عزلة عن قضايا العصر المطروحة؟ من مثل العولمة وحوار الحضارات والهوية الثقافية الوطنية، وهي قضايا نشتم منها رائحة الالتهام لخصوصيات الأمكنة وثقافاتها الوطنية. إننا نعيش اليوم في “عصر اختزال المسافات وثورة تكنولوجيا المعلومات، يصبح العالم فيها قرية” ولا حياة لمن يعزل نفسه عنها. فهل نحن قادمون على عالم له هوية ثقافية واحدة، أم أن خصوصية هوياتنا الثقافية الوطنية المتنوعة ستظل حاضرة ولكن في إطار هوية ثقافية عالمية واحدة قائمة على تنوع الخصوصيات؟! مراجع - ابن منظور (ط1996م)، لسان العرب، مادة: ك ون، تحقيق أمين عبدالوهاب ومحمد الصادق، بيروت. - العشماوي، فوزية (2003م)، الحوار بين الحضارات والخصوصيات الثقافية، مجلة العربي، عدد 534 مايو الكويت. - باختين ميخائيل (1990م)، أشكال الزمان والمكان، ترجمة يوسف حلاق، دمشق. - حسين، خالد (2000م)، شعرية المكان في الرواية الجديدة، كتاب الرياض، عدد83 الرياض. - شريبط، أحمد (1994م)، الفضاء المصطلح، مجلة الحياة الثقافية، عدد6768 تونس. - جابر عصفور، (2007م)، حوار الحضارات والثقافات، كتاب في جريدة، صحيفة الثورة، عدد 101، 8 يناير. - قاسم، سيزا (1994م)، أهمية المكان، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.