بالرغم من أنّ النظام الإجرائي السعودي في القضايا الجزائية قد جاء متضمناً حق المتهم في كافة جوانبه، من ضمان حريته وعدم القبض عليه أو توقيفه إلا في الأحوال المنصوص عليها نظاماً. وعدم جواز توقيع عقوبة جزائية عليه إلا على أمر محظور ومعاقب عليه شرعاً أو نظاماً بعد ثبوت إدانته بحكم نهائي. كما أنه أي نظام الاجراءات الجزائية قد نص على حق المتهم في أن تكون إجراءات محاكمته ناجزة من غير تأخير مع اهمية إحاطته علماً بالتهمة المنسوبة إليه، وأن تكون محاكمته أمام محكمة مختصة ومستقلة وحيادية وتوفير حقه (في غير حالات الضرورة) حضور جميع إجراءات التحقيق والمحاكمة والاستعانة بمحام أو وكيل للدفاع عنه ومحاكمته محاكمة علنية. مع حظر إيذائه أو تعذيبه مادياً أو معنوياً وعدم تعرضه للمعاملة المهينة للكرامة الإنسانية والحفاظ على حرمته وحرمة حياته الخاصة وحرمة مسكنه ومراسلاته ومحادثاته الهاتفية وضمانات أُخر عديدة. وبالرغم من كل هذه الضمانات المقننة في نصوص واضحة، إلا أنّ الكثير من المتهمين يشكون لطوب الأرض من عدم توفر هذه الضمانات على أرض الواقع وتعوزهم الحجة على اثبات ذلك، حيث يستحيل عليهم تسجيل ما يقع عليهم بما يمكنهم من تقديم البينات الدامغة على صدق ما يدعون، وكثيراً ما يشكو بعضهم من التطويل في التحري والتحقيق، وكيف انهم لا يتمكنون من الاستعانة بمحام إلا بعد نهاية التحقيق حيث يكونون قد سجلوا افادات لم يكونوا ليسجلوها لولاء الضغوط النفسية والمعنوية التي يتعرضون لها بسبب تطويل اجراءات التحقيق وهم في الحبس، ومما لا شك فيه ان التطويل في وقت الحبس في حد ذاته يمثل ضغطاً معنوياً على المتهم ما يجعله في حالة من الأسى الضاغط حتى يدلي بما لم يكن من الحقيقة في شيء، وهو لا يدري انه مهلك نفسه لمجرد الشعور بالأمل انه سيخرج مما هو فيه، لهذا كثيراً ما نجد المتهمين ما إن يمثلوا امام المحكمة حتى ينفوا صحة ما ادلوا به من اقوال وافادات في مرحلة التحقيق ويبرروا افاداتهم تلك بأنها كانت نتاجاً لإيحاءات بالاغراء او التهديد من قِبل التحقيق بما يوحى اليهم بأنهم سيظلون في الحبس ما لم يدلوا بتلك الافادات. والمحقق بوعي منه او من غير وعي فهو يسعى لجلب اي بينة تبرر له تقديم المتهم للمحاكمة وهو يأخذ مثل تلك الاقوال كأدلة تبرر محاكمة المتهم، وهذه المسألة بالرغم من عدم صحة تعميمها، إلا أنها تظل تمثل تشويشاً لمقتضيات العدالة بما يلقي الكثير من ظلال الشك على الادلة المقدمة امام المحكمة، وهذا ما يبرر او بالأحرى ما يحتم على القاضي تفسير مثل هذه الحالات لصالح المتهم على قرار مبدأ (الشك يفسر لصالح المتهم .....وانّ المتهم برئ حتى تثبت ادانته)، وليس العكس كما يحدث في بعض الاحيان، حين تأخذ المحكمة بما يحويه قرار الاتهام (ورقة الاتهام) كما لو كان ما حوته تلك الورقة بينة لا تقبل العكس. وتظل تسمية ما يقدمه التحقيق من ادلة ب (قرار الاتهام) تسمية خاطئة، ذلك الصحيح انّ التحقيق يتقدم بورقة اتهام. وليست المشكلة في هذه الجزئية فحسب، ذلك انّ مشكلة المشاكل تظل قائمة طالما أنه لا يوجد نص نظامي يحدد مسمى ووصف الفعل المجّرم أو المحظور، مع تحديد العقاب بنص في كثير من الاحيان وتظهر هذه المعضلة في الجرائم التي لم يفرد لها المشرع نظاما خاصا بعينه كتلك التي تنظم مكافحة المخدرات والرشوة والتزوير على سبيل المثال، ذلك انّ عدم وجود نظام جنائي عام يعرض بعض المتهمين في كثير من الاحيان الى شيء من الظلم ليس اقله عدم معرفة وصف الفعل المتهم به او وصفه بما لا يضمن الدقة في الوصف، لهذا فلا بدّ من نظام جنائي عام لكي تتناغم مع العدالة الضمانات التي ساقها نظام الإجراءات الجزائية الذي حوى العديد من القواعد والمبادئ الخاصة بحقوق المتهم وضمانات المحافظة عليها من خلال مواده العديدة، والتي من خلالها تتضح كافة القواعد الإجرائية المتعلقة بضمانات العدالة بدءاً من وقوع الجريمة وحتى الحكم على مرتكبها وتنفيذ العقوبة، ذلك انّ شرعية النص هي التي تمثل ضمانة عظيمة لتحقيق العدالة بعيداً عن التقديرات التي يصيبها جزاف المزاج الذي كثيراً ما يكون متأثراً بمؤثرات شخصية وليست موضوعية وغير مجردة من الغرض، حيث تتعدى الشروحات والتفسيرات للفعل الواحد في كثير من المذاهب التي قد يأخذ بها المعنيون بأمر العدالة. لهذا فإنّ مبدأ الشرعية الجنائية والذي يمثل الركن الشرعي للجريمة هو وجود نص يجرم الفعل ويقدر العقوبة عليه قبل وقوعه، بحيث لا يجوز معاقبة الشخص على فعل وقع منه الا اذا كان هذا الفعل مجرما بنص مسبقاً، كما يجب ان يكون النص تشريعيا مكتوبا، ولا يفوتنا ان نشير الى انّ الشريعة الاسلامية قد سبقت الأنظمة الوضعية في ترسيخ هذا المبدأ من قبل لما يقارب الف وخمسمائة عام خلت، حيث ورد ذلك في الكثير من النصوص، على سبيل المثال: قول الله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) وقوله سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ). ما يؤكد ان الأصل في الشريعة الاسلامية هو أن استحقاق العقاب متوقف على سبق الإنذار وهذا جوهر معنى مبدأ (الشرعية الجنائية) حيث لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ما يعني أهمية تقييد سلطة القاضي بحصر الجرائم وتقدير العقوبات، ذلك ان المشرع هو الذي يحدد الفعل المعاقب عليه بموجب قانون يحدد الفعل المجرّم وعقوبته في نصٍ منضبط بما لا يترك مجالاً للتناقض في الأحكام الجنائية على وجه الخصوص.