بين حين وآخر نرددّ راحوا الطيبين، لأننا في الزمن الجميل كناّ نعيش ونتعايش بقلوب غامرة بالمحبّة والوفاء والعطاء. اليوم اختلف الوضع وتغيّر الحال والأحوال وفقدنا بعضاً من أصالتنا وتقاليدنا وروابط الجيرة والصداقة. وقبل أيام وصلتني على الواتس ما كنّا عليه آباءً وأبناء رأيت إشراك أحبّتي فيها لأخذ العبرة والاستفادة منها: في الماضي كان الاقتراب من هاتف المنزل محظوراً وممنوعا إلا على الوالدين، وإذا رن الهاتف تتعالى أصواتهم بالأمر من بعيد لا أحد يرد. فهذا الجهاز الساحر ارتبط بمفهوم الأخلاق والحياء، وكان اقتراب البنات منه يمثل خروجهن في الشارع دون غطاء رأس. في الماضي كان أقصى ما يمكن أن يشاهده الصغار في التلفزيون افتح يا سمسم والكابتن ماجد وزينه ونحول، وأفضل البرامج في رمضان بابا فرحان بعد العصر وبرنامج العلم للجميع. في الماضي كان الأب عملاقا كبيراً، نظرة من عينه تخرسنا، وضحكته تطلق أعيادا في البيت وصوت خطواته القادمة إلى الغرفة تكفي لأن نستيقظ من عميق السبات ونصلي الفجر. في الماضي كانت المدرسة التي تبعد كيلو مترات قريبة لدرجة أننا نمشى إليها كل صباح ونعود منها كل ظهيرة، لم نحتج إلى باصات مكيفة ولم نخش على أنفسنا ونحن نتجول في الحارات. في الماضي لم تكن هناك جراثيم على عربات التسوق ولم نعرفها في أرضيات البيوت، ولم نسمع عنها في إعلانات التلفزيون، ولم نحتج لسائل معقم ندهن فيه يدينا كل ساعتين ولم نمرض. في الماضي كانت للأم سلطة وللمعلم سلطة وللمسطرة الخشبية الطويلة سلطة نبلع ريقنا أمامها، وهي وإن كانت تؤلمنا لكنها جعلتنا نحفظ جزء عم وجدول الضرب وأصول القراءة وكتابة الخط العربي ونحن لم نتعد التاسعة من العمر. في الماضي كان ابن الجيران يطرقُ الباب ويقول أمي تسلم عليكِم وتقول عندكم بصل – طماطم – بيض - خبز.. إخوان في الجوار والجدار وحتى في اللقمة. في الماضي كانت الشوارع بعد العاشرة مساءً تصبح فارغة وكان النساء يمكثن في بيوتهن ولا يخرجن أبداً في المساء، وكان الرجال لا يعرفون مكانا يفتح أبوابه ليلا سوى المستشفى. في الماضي كان الستر في الوجوه الطيبة الباسمة وكانت أبواب البيوت مشرعة للجيران والترحيب يُسمعُ من أقصى مكان، وكنا نتبادل أطباق الطعام والآن نتبادل الشكوك وسوء الظن، والآن عرفتم مَنْ الطيبون اللي راحوا. نعم إنها الأنفس التي تغيرت وأعمتها الحضارة كما يقولون حضارة ألبستنا أرقى أنواع الملابس وعرّتنا من القيم الإنسانية، هل فعلاً «راحوا الطيبين» بعد هذا الكلام الرائع والجميل، وهل بالإمكان اعادة بعض من هذه الصفات الحميدة والتي كانت عنواناً زاهياً في حياتنا لخلق جيل مختلف عمّا نلاحظه اليوم، بالرغم من توفّر كل الإمكانيات من عيش رغيد ومال وفير وعلم غزير، كلّ هذا يحسدنا عليه الصديق قبل العدوّ. كم نحن بحاجة الى مراجعة النّفس وتحكيم العقل والعودة للقديم من حياتنا ونؤمن بأن الآباء في الزمن الماضي الجميل كانوا على الفطْرة بقلوب ناصعة البياض هم من تعلّمنا منهم الأصالة والمرْجلة والعلم الغانم. ولكنّا للأسف ما زلنا نفكر ضمن دائرة ضيّقة وقلوب متحجّرة ضعنا بين حقد وحسد وضغينة وانقطاع تواصل بين الأصهار وبين الإخوان وبين الأحباب والأصدقاء. الله المستعان. ولنا لقاء بإذن الله.