عايش الوطن الغالي على مدى الأشهر الثمانية المنصرمة ثلاثيةً دامية، أخذت أرواحاً بريئة، ورغم الشر الذي لفَ تلك العمليات الثلاث إلا أنها أفرزت التفافاً وتنادياً حول الدالوة والقديح والعنود، ما حاصر مسعى المدبرين فجعل مبتغاهم بعيد المنال. وفي غمرة الأسابيع الثلاثة المنصرمة، كانت الثقة في الله - جَلّت قدرته وتعالى شأنه - باعثاً للقوة والتماسك لمن فقدوا أعزاء لهم غدراً، ملفوفة بالتباهي بأن هناك من استشهد ليُفشِل كيد الكائدين، ليكتشف العدو قبل الصديق، ومن هو أخ لنا ومن يرفض أن يكون أخاً لنا، اكتشفوا أن هذا الوطن يقوم على الأخوة بين جميع مواطنيه، أو هكذا أفهمها. وتسمى الأخوة الوطنية، ومن أراد لقرية الدالوة أو لبلدة القديح أو لحي العنود أن تغرق في أحزانها فريدة وحيدة بعيدة غريبة، قد خابَ ظنه، وتكررت خيبته مرات عديدة؛ فالدالوة زفت شهداء الوطن من بقاع متباعدة للمملكة العربية السعودية، ولم يشغلها مصابها وجرحها الغائر عن أن تقول للجميع: كلنا أبناء وطن واحد وتراب واحد ومصير واحد، ومن استشهد دفاعاً عن أبناء الدالوة هو العقل والقلب والوجدان. ولن أفاضل بين المآسي، لكن مشهد الاحتساب لله أولاً ثم الاستناد للوطن وأهله ثانياً تكرر، وأصبح الالتفاف الوطني أكثر حضوراً وأعلى صوتاً ضد استهداف المواطنين، فهو استهداف للوطن ولأمنه في المقام الأول. قالت الفواجع الثلاث ببلاغة صارخة: إننا إخوة، هذه الكلمة الساحرة، التي يتردد أحدٌّ - بل وقد يُحجم - قبل أن يقولها لمواطنه. شخصياً، أسيرُ في رِكاب الدالوة والقديح والعنود قائلاً: من لا يعتقد في أخوة الوطن فلا يستحق تلك الأخوة، بل هي منه براء، لكن الصور الوطنية السعودية المشرقة طغت على المشهد الذي اخترنا أن نراه، صورٌ جميلةٌ تحمل في ثناياها الأمل، فتتالت المواقف الوطنية، وتجاوزت المقالات والزيارات من الوفود الرسمية والأهلية على استذكار ذلك في الخطب الافتتاحية للمناسبات الوطنية، كما سمعنا في ثنايا خطاب الشيخ صالح كامل أمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في جدة، قالوها بأقلامهم وحناجرهم ومعهم آلافٌ مؤلفة ممن أتت لتواسي في الفواجع الثلاث، فسمعنا نثراً وشعراً وكلمات مرتجلة والكثير من معاني المواطنة والتآزر. أما الأيدي الحانية والكلمات المواسية فقد وصلت مبكرة فسبقت أي طرف آخر، من قيادتنا في هذا الوطن الغالي، وقبل ذلك كلفت رجال أمنٍ، وهم مواطنون أشاوس أشداء، لتتبع الجناة بحزم وسرعة خاطفة، وهيأت الدولة - يرعاها الله - السبل كافة للتخفيف من المصاب على أهله. وما ندركه جميعاً وبمرارة، أن التحريض يؤدي إلى التكاره، ويتطور حتى يستمرئ انتهاك الحرمات. أما مكافحة ذلك فمسئولية فردية تقع على عاتق كلٍ منا، تعزيزاً للُحمتنا الوطنية، ونربأ بأي سعودي أن يُحرض على سعودي آخر أو يمتهنه بصورة أو بأخرى، وكذلك هي مسئولية الأسرة (كل أسرة مواطنة وكل حمولة) أن تسعى سعياً حثيثاً لمنع خطاب الكراهية من أن يدخل من النوافذ والأبواب أو حتى من التلفاز والراديو وقنوات التواصل الاجتماعي، وللمسجد والمدرسة والجامعة. بل حتى لأماكن العمل دور أساسي في تنقية الخطاب من التكاره بين مكونات المجتمع، فالتكاره يعني التفتت والتناثر والتشتت، وبالتالي الضعف، في حين أن من واجبنا جميعاً تقوية وطننا، والحفاظ عليه سيداً عزيزاً. ولتحديد الواجب الذي على كل منا أن يقوم به لِزاماً، ولإيجاد أداة قانونية للردع، فأساسي وضع هيكلة لمكافحة الافتئات على الوحدة الوطنية، وهي تشمل الوطن ومكوناته ومكتسباته، وعلينا هنا ألا نستثني أحداً، بل أن يشمل الأمر أي مواطن طبيعي أو اعتباري أو مقيم في المملكة أو مكلف غير مقيم (وفقاً لتعريف نظام الضرائب السعودي) ممن له مصالح في بلدنا، وبالقطع فالنظام (القانون) سيُجرّم كل محرض ثبت تحريضه، أو من تدور حوله شبهة التحريض بدون استثناء، فالقضية ليست دفاعاً إلا عن الوطن برمته، والهدف ألا تُمنح فرصة لأحد لأن يتنكر ويَجحد "الأخوة الوطنية" التي تجمع كل المواطنين. فالحفاظ عليها واحترامها وتقديرها وصيانتها والبرّ بها ليس خياراً لأي منا، بل واجبا يستدعي التقصير في أدائه العقاب الرادع. * متخصص في المعلوماتية والإنتاج