من عيوب الخطاب النقدي أن يحوي تعميما لا يستثني أحدا، ومن العيوب أيضا أن ندّعي تجرد النقد من حظوظ النفس وغواية الهوى، لسنا بمثاليين لدرجة التخلص المفرط من نوازع أنفسنا، لكن الصحيح أن نحاول قدر المستطاع قراءة الأحداث بعيدا عن هتافات المأزومين وآهات المحزونين و تهديدات الجانحين وإملاءات الواعظين، ولعلي أعرض هذه المحاولة من خلال الرؤى التالية : أولا : إن المشهد المؤلم الذي وقع في القديح وحي العنود أصابنا جميعا في مقتل وأيقظ الجميع لخطر التطرف ومآلاته الكارثية على بلادنا، وأظن الأكثر جال في ذهنه صور ما يحصل في العراق والشام ولبنان واليمن من فظائع الإجرام، فزاده المصاب قلقا وفزعا من تحوّل أمننا إلى خوف واستقرارنا إلى قلاقل وفتن، وغالبا في مثل هذه الأحداث يظهر الكثير من الأصوات والتحليلات، وينشدّ الناس إلى فهم ومعرفة ما جرى وأسباب وقوعه وما سيجري وآثار حصوله. وهنا تهيمن الأصوات العالية وقد لا تكون هي العاقلة، وتتداول أجهزتنا الكفية - في العادة - أغرب التحليلات سواء كانت من وعاظ أو كتّاب أو مغردين مشهورين، وكم تغيب الحقيقة في ظل هذا التداول الهائل والسريع من المعلومات، وكم تغيب أيضا المسؤولية الذاتية التي يتطلبها الموقف عن الكثير من الخائضين في إلقاء اللوم وتحميل التبعة في كل ما يحدث ؟! وغالبية صنّاع هذا الغبار الحالك في أزماتنا كما حدث في القديح والعنود لا يمثلون الأكثر من أفراد المجتمع الصامتين المراقبين لما يحدث، بل قد يكون هؤلاء الغالبية على خلاف ما يسمعون واستنكار لما يشاهدون من مقاطع غريبة، يظن المطالع لها أنها رأي الأكثرية سواء من الشيعة أو السنة. ومما يشجع انتشار هذه الشائعات والاغلوطات، صمت الجهات الرسمية في تبيين الحقائق مثار الجدل، وفشل الإعلام الرسمي في توضيح الموقف اللازم لوأد الفتنة، وكم تعجبت بعد حادثة العنود أن يتجه الخطاب الى المبالغة في الثناء على المسؤولين، والمبالغة ربما تسيء لنجاحاتهم الواقعة والمتوقعة. بينما المواطن المكلوم خائف من تكرر هذه التفجيرات، ويبحث عن معالجات تٌطمئن قلقه وتوقف الاشاعات، وتنقل التوجيهات الكلامية الى ميدان التنفيذ حتى يراها الفرد فيشعر بالأمان ويضع يده مع مؤسساته الرسمية ليحفظ استقراره من كل ضرر وخطر. ثانيا: توظيف الحدث المؤلم في مطالب شخصية ومنافع حزبية من الانتهازية المذمومة، فإلقاء اللوم في سبب خروج الدواعش في بلادنا على المناهج التعليمية والمنابر الوعظية هو خروج عن التوصيف الصحيح للظاهرة - إذا صح تسميتها بالظاهرة - لأن المجموعات الداعشية قد ظهرت في عدد من الدول العربية مثل ليبيا وتونس ومصر ولم يكن للمناهج دور في تشكيل تطرفهم وغلوهم. كما أن أوروبا العلمانية أفرزت مجتمعاتها بعض أولئك المتنطعين، ولكن من المهم الإشارة الى أن المنابر قد تحرّض على العنف وتهيج العواطف للكراهية والنبذ، لكن لا أتوقع أن يصنع الإرهاب غير القناعات الفكرية التي تُغذَّى بعيدا عن أعين المدارس والمساجد، وتبقى أهمية معالجة خطر المحرضين بمحاورتهم أو منعهم دون الحاجة لهدم المسجد أو إغلاق المدرسة. وللأسف خطاب بعض الشيوخ والمثقفين الشيعة حول تغيير المناهج وتحميلها ما حصل من جريمة، قد استدعى الكثير لمطالبة الشيعة بإزالة ما في أدبياتهم من تحريض وتكفير لعموم أهل السنة من باب الرد والمقابلة، وهذا النوع من المطالب يؤزم المشكلة لأنه يفتح أبواب التاريخ القديم بما فيه من أخطاء وإشكالات لتهيمن على الواقع، وتعقّد الحلول وتعمّق الفجوة التي نحاول ردمها. وأظن أن هذه المطالب ليست واقعية ولا موضوعية، ولن تغير شيئا في المعتقد الذي توارثه الناس منذ قرون، وأجد الحل في حذف مؤسسات الدولة كل ما يبعث في النفوس الغل أو التمييز سواء في المناهج أو على المنابر لدى كل الطوائف، وهذا الحل من باب نزع فتيل المواجهة. أما المراجعة والنقد للتراث فيجب أن يمارسها كل الأطراف بموضوعية وهدوء بحثا عن الحقيقة قبل أن يكون واجبا وطنيا للتعايش. ثالثا: التقليل من الحدث مغالطة، كما أن تدويله وربطه بالأزمات العربية يعقّد المعالجة ويفتح الكثير من الجراحات التي لا تعنينا بشكل مباشر. وكما أشرت سابقا فان الصور الذهنية التي نراها على شاشات التلفزة لما يجري حولنا تداهم تفكيرنا وتثير مخاوفنا بلا شك، لكن إسقاطات الحالة الشيعية في السعودية على مثيلاتها في الدول العربية تبدو صعبة ومخالفة للحقيقة، من حيث العدد السكاني وعدم وجود ذاكرة مأزومة من المواجهات الدموية كما في العراق ولبنان، وأيضا من جهة سعة النفوذ ومدى الإمكانات، وفي مثل حالتنا السعودية يجب أن تكون المعالجة أمنية بالدرجة الأولى لوأد كل المحاولات التي تريد التخريب أو الترهيب. كما أن القنوات الرسمية ينبغي أن تمارس دورها الطبيعي في منع التحريض و التهييج المتبادل بين الطائفتين، أما المؤسسات المجتمعية الأهلية فيمكن أن تقدم الكثير بشرط أن يكون المناخ منفتحا والبيئة قابلة للتعدد، ولا أظن هذا التهيؤ قد بلغ مداه حتى الآن إلا في أطر ضيقة لا تشجع على الانتشار. رابعا: وهو مهم - من وجهة نظري - من الناحية العلمية، والمتعلق بنشر ثقافة التسامح والتعددية بين أبناء المجتمع الواحد ، وهذا المفهوم المتداول بشكل آلي ويتكرر في الخطابات من غير تحقيق، لا يعني التنازل عن المعتقد أو التقارب بهدم الاختلاف بين الطوائف، بل أعتقد أنه اعتراف بأن كلا منا يملك أخطاء تقتضي أن يتجاوزها المقابل من أجل المصالح العظمى بين المختلفين، وأن هذه المنافع المشتركة لا غنى لبعضنا عنها وهي أساس التوافق وبناء الجسور ، وما ذاك إلا لنحفظ هذا المجال الجامع لحاضرنا ومستقبلنا أن يبقى سالما من كل مكروه. وفي حالة اقتنعنا بهذا المعنى من التسامح سنشعر بأن الكثير من المهاترات والمنازعات كانت أشبه بالمغامرات الخطيرة لخرق سفينتنا وتشتيت وحدتنا. وأختم بأن المكتسبات الوطنية التي بناها الجميع دون تمييز طائفي يجب أن تبقى و يُحافظ عليها، وإذا ذهبت لن تعود ، وما يُهدم في لحظة غضب قد يصعب بناؤه، والسعيد من اتعظ بغيره.