بعد وفاة باسل الأسد 1994م وتردي صحة حافظ الأسد وعودة بشار من بريطانيا بديلا عن أخيه، دخل النفوذ الإيراني في سوريا مرحلة جديدة هي "التدخل بالوكالة"، والتي شكل فيها حسن نصر الله اللاعب الأبرز، على اعتبار أن ايران كلفته وقتها بالتمهيد لعودة نفوذها إلى سوريا، من خلال ما اطلق عليه "مهمة نصر الله الإيرانية في سوريا". فقد كانت إيران أكبر المستفيدين من تغييب باسل الأسد عن الحكم، لاسيما وأن مقتله كان أولى خطوات عودة نفوذها إلى سوريا، ما دفع الكثير من المحللين إلى اتهامها بشكل مباشر بالضلوع في مقتله، خاصة وأن ملابسات الحادث الذي قضى فيه لا تزال لغزا لم يفك حتى الآن. إقصاء الحرس القديم وأولى المهام التي أوكلتها طهران لنصر الله -والتي اعتبرت أهم الخطوات- كانت التقرب من بشار والحصول على ثقته التامة؛ كون الأخير لم يكن يملك الخبرة أو القدرة على اتخاذ القرارات أو العمل السياسي؛ لبعده عن الحكم ومواقع القرار قبل وفاة باسل، وهو ما تم بالفعل من خلال الزيارات المتكررة لنصر الله إلى سوريا في ذلك الوقت، وإظهاره الولاء التام للنظام في سوريا وإبدائه كامل الاستعداد لدعم تسلم بشار للحكم. وثاني خطوة في مهمة نصر الله في سوريا هي إبعاد كافة القادة العسكريين المقربين من حافظ الأسد "الحرس القديم"، والذين كانوا يمثلون حجر عثرة في وجه عودة نفوذ إيران إلى سوريا، وهي المهمة التي تمكن نصر الله من أدائها بشكل كامل من خلال إقناع بشار الأسد بإقصائهم تحت مسمى محاربة الفساد والقضاء على الطامعين بالحكم، وهو ما يفسر تسريح عشرات القادة من مناصبهم في الفترة بين 1996 وحتى 2000، أمثال رئيس الأركان آنذاك العماد حكمت الشهابي أقرب المقربين إلى حافظ الأسد والذي أقيل بتهمة الإخلال بأمن البلاد، كما تم إقصاء العماد علي دوبا مدير الاستخبارات وعدد من القادة العسكريين. ولم يكتف حسن نصر الله بإقصاء المعارضين لإيران من الجيش، وإنما أقنع بشار بإحداث حركة تغييرات أسهمت إلى حد كبير بصعود نجم عدد من القادة العسكريين المدعومين إيرانيا وتسلمهم مناصب قيادية كالعميد اياد المحمود الذي لعب دوراً بارزاً في العلاقات السورية - الإيرانية، عندما كان في السفارة السورية بطهران، بالاضافة إلى اللواء محمد سليمان الذي شغل فيما بعد منصب ضابط ارتباط في القصر الجمهوري وغيرهم، لتكمل إيران بذلك أولى مراحل عودتها إلى سوريا بوضع موطئ قدم لها داخل المؤسسة العسكرية. وخارج الإطار العسكري، عمل أيضا نصر الله على إقناع بشار الأسد بضرورة تعميق العلاقات مع طهران من خلال السماح بالزيارات الدينية للشيعة وتفعيل الاتفاقيات المجمدة بين البلدين. وفاة حافظ الأسد ورغم تحذيرات حافظ الأسد لابنه من أطماع إيران في المنطقة إلا أنه وفي العام 2000 ومع وفاة الأب، كان نصر الله قد أتم مهمته في تمهيد الطريق أمام إيران للدخول إلى سوريا، لتنتقل مهمته بعد ذلك إلى التمهيد لسيطرة إيران على لبنان، حيث عمل على إقناع بشار الاسد بتعديل سياسة والده في لبنان بسحب ملف لبنان الأمني من نائب الرئيس آنذاك عبد الحليم خدام، بالإضافة إلى نقل رئاسة الاستخبارات السورية في بيروت من العميد غازي كنعان الذي كان يعتبر الرئيس الفعلي للبنان بحجة أنه يخطط للاستيلاء على الحكم في سوريا، إلى رستم غزالي المقرب من ايران، لدرجة أنه اتبع المذهب الشيعي، وهي الخطوة التي تعتبر أكبر خدمة قدمها نصر الله إلى ايران؛ لما كان لها من دور كبير في مساعدته بتنفيذ الكثير من مخططاته على الساحة اللبنانية، والتي كان لها أثرها في إخراج الجيش السوري من لبنان وهو ما سنتطرق له في جزئنا القادم من ملف التدخل الايراني في سوريا. واختتم نصر الله مهمته في سوريا باستعراض عسكري حضر به جنازة حافظ الأسد في العام 2000، حيث رافق نصر الله عشرات المقاتلين من حزبه إلى دمشق واستعراضهم أمام بشار الأسد في رسالة أراد أن يوصلها للأخير بأن حزب الله إلى جانبه لتعميق العلاقة بينهما، والتي تحولت تلقائيا إلى علاقة بين نظام بشار الأسد وإيران. وبحسب تقرير للهيئة السورية للإعلام فإنه على الرغم من انتهاء دور نصر الله في سوريا، إلا أن نفوذ إيران بقي بالوكالة عبر ما كان يعرف بالحرس الحديث داخل الجيش والمؤسسات السياسية حتى العام 2003، عند توقيع رئيس حكومة الأسد آنذاك محمد ناجي عطري ما كان يعرف وقتها بمعاهدة الدفاع المشترك بين سورياوإيران، لتبدأ معها مرحلة الدخول الإيراني المباشر إلى سوريا. إطاحة صدام حسين وتعد الحرب على العراق في شهر مارس من عام 2003م للإطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين وبحزبه العربي الاشتراكي أبرز النقاط الجوهرية التي سهلت على ايران السيطرة على قرار الحكم في سوريا، وخاصة بعد التصريحات التي اطلقها البيت الأبيض والرئيس الامريكي جورج بوش آنذاك، باحتمال شن حرب على النظام الحاكم في سوريا وعلى رأسه بشار الأسد لامتلاكه اسلحة كيميائية، وقال بوش في ذلك: "نعتقد أن لدى سوريا أسلحة كيميائية وأمر الحرب يأتي بعد الانتهاء من نظام صدام حسين". واستغلت ايران هذه التصريحات للضغط بشكل مكثف على بشار الأسد للرضوخ لمطالبها مقابل التحرك السياسي مع الحلفاء الروس لمنع الحرب على سوريا، وما هي الا ايام قليلة حتى وافق الأسد الابن على توقيع اتفاقية التفاهم السوري الايراني في شهر آيار من عام 2003م (بعد شهرين من الحرب على العراق)، والتي نصت بمجملها على تسليم الاقتصاد السوري لطهران من خلال عمليات التبادل التجاري. ونصت الاتفاقية على تسهيل عمليات التشيع وإنشاء الحوزات في سوريا، ووضع نظام الخامنئي بأيدي رجال الأعمال السوريين الشيعة أموالا طائلة لشراء الأراضي وبناء مدارس دينية وكسب ولاءات ونشر التشيع في مختلف أرجاء الدولة، وهذا ما سنتحدث عنه بشكل مفصل في الأجزاء القادمة من التدخل الايراني الاقتصادي والديني في سوريا. الهلال الشيعي ويضيف التقرير: كان لا بد لإيران من استكمال مشروعها في تكوين الهلال الشيعي عبر السيطرة على القرار السياسي في لبنان بعد وضع الأسد ونظامه في الزاوية. وسعت طهران بعد هذه التقلبات الى القضاء على أي منافس لها في لبنان ولم يكن هناك أقوى من نظام الوصاية السورية والجيش السوري الذي احتل لبنان في عام 1976م على اثر احداث الحرب الاهلية، فأوعزت لرجالاتها في حزب الله لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005م وإلصاق التهمة بنظام بشار الأسد؛ بهدف إنهاء الوجود السوري في لبنان والانتقام من حافظ الأسد الذي كان يسيطر على قرار الحكم في لبنان، وبسط نفوذ حزب الله العسكري والسياسي على لبنان، وبالتالي نقل قرار الحكم إلى ولاية الفقيه. السيطرة على سورياولبنان ولم يمض على اغتيال إيران للرئيس رفيق الحريري سوى أيام قليلة حتى بدأ الخامنئي يدفع نصر الله للتواصل مع صديقه بشار الأسد؛ بغية إقناعه بضرورة الإيعاز لجيشه بمغادرة لبنان تحت حماية عناصر حزب الله والتعهدات بعدم التعرض لأي جندي سوري من قبل الشعب اللبناني المحتقن من عملية الاغتيال. وبالفعل بعد أقل من شهرين رضخ الأسد للضغوطات الشعبية وبدأ بسحب كامل جيشه من المواقع العسكرية، منهيا بذلك الاحتلال السوري للأراضي اللبنانية في شهر نيسان من عام 2005م. وبدأت طهران بعدها ببسط نفوذها على بيروت عبر حزب الله من خلال زج الحزب في المعركة السياسية وإنشاء تحالف 8 آذار ضد تحالف 14 آذار. اختلاق حرب ولم تمض السنة على تشكيل التحالفات المتضادة حتى أوعزت طهران لطفلها المدلل حسن نصر الله بضرورة اختلاق حرب مع اسرائيل عبر خطف جنود إسرائيليين على الحدود اللبنانية - الفلسطينية؛ لإعادة الحاضنة الشعبية المحلية والعربية للحزب باعتباره أساسا لمحور ما يسمى "المقاومة والممانعة. وبعد الحرب المفتعلة من حزب الله وظهور نظامي الأسد وخامنئي كأرباب "المقاومة والممانعة" استمرت المخططات الايرانية في تحويل سوريا الى مدينة ايرانية كبرى، وباتت دمشق العاصمة الثانية للجمهورية الايرانية بعد طهران الى أن اندلعت الثورة الخضراء في ايران عام 2009، وما ان انتهى الحرس الثوري من قتل المتظاهرين واعتقالهم حتى انفجرت ثورة الكرامة السورية، معلنة معها حقبة جديدة من التدخلات السياسية الايرانية في الشأن السوري.