يصطحب القاص عبدالجليل الحافظ قارئه في مجموعته الجديدة "عتمة" إلى فضاءات أدبية ملونة بأشكال السرد، التي عمل القاص على اختبار مقدرته في التعبير عن ذاته وأفكاره من خلالها. فتحضر القصة القصيرة في البداية، ثم ينتقل القاص تدريجيا إلى الجنس السردي الحديث، الذي يطلق عليه القصة القصيرة جداً أو الأقصوصة. فمفهوم التدرج في الانتقال بينهما، هو المسافة التي قطعها القاص وتخلى فيها تدريجيا عن أدواته التقليدية في ممارسة أسلوب القص والحكاية في القصة القصيرة، إلى تبني الشاعرية النثرية بمستلزماتها الضرورية في القصة القصيرة جداً، كالومضة والمفارقات الزمانية والموقفية. في القصة القصيرة نجد القاص وقد التزم بأركان القصة: كالحدث والشخصية ونقطة التأزم أو العقدة الدرامية، والحوار.. ويتضح ذلك بشكل جلي في قصة "قرية الذئاب". بطريقة الارتجاع الفني أو (الخطف خلفاً)، تتحرك الشخصيات الفرعية في الحكاية، وتتعاضد مع المكان في مشاهد متعددة لتصف البناء الدرامي المتصاعد للحدث، وهو تصالح الذئب مع أهل القرية وكفه عن افتراس أفرادها عن طريق عهد الهدنة الذي تم بوساطة أبي صالح. فبالإضافة إلى مهارة القاص عبدالجليل في إتقانه لأدوات القص، نجد أنها قد عبرت وبوضوح عن أفكاره الشخصية ورؤيته في صراع الخير والشر وموقع العقل الجمعي، واستسلامه للظروف المعيقة لتقدم المجتمع من منطلق الوهم وليس الواقع والحقيقة. بعد القصة القصيرة، نعبر مع القاص إلى مساحة مهمة في مشواره السردي، والتي اتخذها عبدالجليل كمحطة انتقالية مارس فيها التجريب استعدادا للتحول إلى القصة القصيرة جداً. لذلك تنفرز مجموعة من قصصه طواعية وتكشف عملا تجريبيا منظما في هذه المرحلة، ومن هذه المجموعة ننتخب قصة "فيس بوك". فبالرغم من تكراره لتقنية الارتجاع الخلفي في الكشف عن الحدث، إلا أنه وعند تمهيده للوصول إليه قد اكتفى القاص بتوظيف السارد الخارجي في الزمن الماضي ليحكي تشكل الحدث، وجميعها أدوات تابعة للقصة القصيرة. لكن في النهاية يضيف إليها تقنية مستعارة من القصة القصيرة جداً، وهي المفارقة الموقفية في قول الشخصية الرئيسية "كنت أحسبك غير هؤلاء الحثالة". حيث ابتدأ القاص بتوصيفه الشخصية المقابلة والتي يتحدث عنها على أنها مختلفة عن الآخرين بتواصلها الرسمي والموضوعي في فيس بوك، وانه لا يتعدى موضوع الأدب والشعر. أما عندما تستقر تجربتة السردية في المحطة النهائية لهذه المجموعة القصصية، وهي القصة القصيرة جداً، فنرى تحولاً تاماً في أسلوب الحكاية وتكثف الجمل وقربها من الشاعرية، وكذلك التحول من الزمن الماضي الاستعادي إلى الزمن المضارع كتقنيات يلتزم بها ساردو الأقصوصة، ومثال ذلك في قصة "ابتسامة": (يصارع سكرات الموت وهو بجانبها.. حينما ابتعدت، ابتسم لها وهو يحلق في الأعالي). وكذلك يمازج القاص بين الزمنين الماضي والمستمر في بعدهما المعنوي في الأقصوصة الأخرى "جنازة" (دوى صوت رصاصة في الأرجاء، تلفتوا حول بعضهم ولم يروا صريعاً، فعادوا لقبورهم المشيدة منذ ألف عام). في ثلاثٍ وعشرين قصة قدم فيها عبدالجليل الحافظ تجربته القصصية، وبتنقله بين الأجناس السردية، يبرز سؤال إلى واجهة المشهد الأدبي السعودي عن حقيقة اعتراف النقاد وموقفهم من القصة القصيرة جداً، وهل تأخروا في اتفاقهم على منحها شرعية الحضور والتواجد؟