للقاص السعودي عبدالله محمد الناصر مجموعة قصصية بعنوان (اشباح السراب) صدرت طبعتها الاولى عن دار الساقي عام 1998م، وضمت خمس عشرة قصة قصيرة، اولها قصة (الايغال في ارتياد الامكنة) وآخرها قصة (سبع الليل) وهذه المجموعة مصدرة باهداء من القاص الى والديه، وهو اهداء وثيق الدلالة بما تحمله قصص عديدة في المجموعة من حيث حرص الكاتب على الرجوع الى الجذور وعدم الاستسلام لمغريات ومفاسد العصر. كما تتقدم المجموعة مقدمة بقلم الروائي السوداني الطيب صالح. وحسنا فعل القاص حين اتخذ من قصة (اشباح السراب) عنوانا للمجموعة كلها، وذلك من وجهة نظري لاسباب ثلاثة. الاول: ان هذه القصة ذات ابعاد انسانية، فالصراع فيها بين عصر التكنولوجيا ممثلا بالسيارة، وعصر البساطة ممثلا في (الجمل) وبطل القصة (نافع) حين خذلته التكنولوجيا (السيارة) وألقته وحيدا في المحيط الملتهب بالعطش انقذته البساطة (الجمل) الذي حمل (نافع) من بحار الرمال التي كادت ان تودي بحياته الى حيث قريته التي استيقظت من غفوتها على صوت اخفاف الجمل، بعد ان الغت ان تستيقظ على ابواق السيارات منذ اربعين عاما خلت، وثاني الاسباب تلك اللغة الشاعرية التي كتب بها القاص احداث قصته والتي عول فيها بدرجة لا تخطئها عين على الصورة التشبيهية المكتوبة بمداد المكان وآخر الاسباب ذلك الغموض الساحر الذي يلف الكلمتين اللتين تؤلفان العنوان، اعني (اشباح السراب)، فان في الاشباح من الاسرار والمثيرات ما يحرص القاص على ايثارها، وكذلك الامر في (السراب) تلك الكلمة التي ضاعف التضايف من جاذبيتها وسحرها وغموضها. ان العنوان كما كان مثيرا بغموضه وجاذبيته، كان محرضا القارئ على القراءة والقاص الجدير بهذا الاسم لابد ان يحسب لنفسيه القارئ الف حساب، ولابد ان يستفز القارئ بدءا من العنوان الذي يصطفيه وحتى آخر القصة. ولا تخطئ العين ان ترى القاص مسكونا بالخوف على اهته، وبالرغبة في التمسك بالهوية، والانحياز الى كل ما هو انساني وقوي وجميل وهكذا هو عبدالله الناصر. ان الخوف على الجذور والتمسك بالوطن يطالعنا في اكثر من قصة. ففي قصة (الايغال في ارتياد الامكنة) نجد البطل يوغل في الرحيل شرقا وغربا دون ان تفارقه صورة الوطن، فهو لا يقايض على الهوية والجذور، بل يظل متشبثا بها حتى النهاية ظل يوغل في الرحيل، يوغل في ارتياد الامكنة، لكن حنينا ابديا صاخبا كسراب الصحراء كان يمعن في الرحيل معه.. (المجموعة ص21) وفي قصة (البحث عنها) يظل البطل مؤرقا بالحنين الى امه، فلا يكف عن البحث عنها، ولا يهنأ الا حينما يعثر عليها في نهاية القصة، حيث تمتزج الفرحة بالبكاء في حديثه الذي يأتينا عبر ضمير المتكلم مما يضاعف من تأثير الكلمات في نفوسنا نحن القراء، يقول البطل فيما يشبه المناجاة: (ارى شيئا عجبا.. اسمع صوتا يهمس!! أرى نورا يشع!! ارى يدين مرفوعتين الى السماء.. اسمع نشيجا وبكاء وتضرعا الى الله.. ارى سجادتها، اشمها وابكي، اشمها وابكي، فأمي تصلي امامي.. امي لم تمت..) المجموعة ص26. والام هنا هي احد الجذور، هي الماضي وعبقه، هي رمز العطاء بلا ثمن في زمن صار لكل شيء فيه ثمن، حتى القاء السلام بين المرء واخيه. وفي قصة (الذيب) تظل القرية مهددة بالخوف، عاجزة عن حماية نعاجها، وخاصة بعد اخفاق الراعي (مسفر) في قتل الذئب، ويمكن للناقد ان يلاحظ دلالة الراعي والذئب هنا، وما ترمي اليه من مغاليق المعاني ان يسعى الكاتب الى توظيف دلالات هذه الألفاظ بما يخدم الهدف الذي يرمي اليه. على أية حال فان للخوف في مجموعة اشباح السراب وجوها عديدة، قد يطول الحديث عنها في مقالة كهذه. ولمن اراد المزيد فليقرأ قصة (النفق) وقصة (بيت العائلة) وسواها في هذه المجموعة ومجموعات الناصر الاخرى. ان القاص عبدالله الناصر يوظف تقنية المفارقة في بعض القصص عامدا من وراء ذلك الى فضح المخازي وتعرية الاوضاع المقلوبة، يظهر ذلك في قصة (عصفور الغضب) حيث تتجلى المفارقة في انصع صورها عندما تعرض احدى القنوات الفضائية فريقا من المفاوضين الذين تحلقوا حول طاولة المفاوضات، يقول السارد: (اراد ان يهرب بعقله من هذا المشهد (يقصد مشهد اصوات الاستغاثة ودوي القصف وألسنة اللهب) فضغط على زر (الريموت) ظهر له مشهد اناس متقابلين على طاولة مفاوضات، لهم وجوه شرسة كوجوه الثعالب.. يقابلهم اخرون لهم وجوه متهدلة، مترحلة.. واعني منطفئة. يتبادلون ابتسامات خاوية.. وبينهم وثيقة للتوقيع، تذكر المثل الفلسطيني الشعبي (هيك عريضة تحتاج هيك توقيع) المجموعة ص35. وعندما كان الفريقان يتفاوضان على التوقيع، كان عصفور صغير خارج النافذة يتشبث بموقعه على سلك الاريل) مقاوما المطر والعواصف في اصرار وكبرياء، ولما لم يجد البطل ما يساند به العصوف رفع تحية تعظيم للعصفور الابي، وتحقير لمن يفاوضون بوجوه فقدت حياءها وحياتها اما في قصة (وحق الفدا) فان المفارقة تتجلى في نبأ اذاعة مذيع عربي اللسان جاء فيه قام ارهابي فلسطيني بتفجير نفسه امام حافلة اسرائيلية فاستشهد خمسة جنود اسرائيليين (المجموعة ص51). وهنا تنقلب الاوضاع رأسا على عقب فاذا الضحية مجرم واذا المجرم شهيد.. ويميل القاص بشكل واضح الى السرد، ويمنح سارده سلطات نرى انها تجاوزتها الرواية والقصة في راهن ايامنا، وكان من اثر الميل الواضح للسرد هنا ان تقلص وجود الحوار بحيث اصبحنا نسمع عن الشخصية ولا نسمع الشخصية نفسها، وغاب ضمير المتكلم الا في قصص قليلة جدا كما في قصة (البحث عنها) التي تزاوج بين السرد بضمير المتكلم والسرد بصوت السارد، والمرات القليلة بل النادرة التي تحدثت فيها الشخصيات عن نفسها، كانت العامية غالبة على حديثها. ويعد الحوارا في قصة عنوانها (في شركة الامل) من اطول ان لم يكن اطول حوار في قصص المجموعة كلها، وهو حوار يكشف بالايحاء الذي يحترم ذكاء القارئ، عن مرارة الواقع وغياب المنطق، وانعدام الامل في اصلاح شركة الامل التي تمثل بدورها حالة متفشية في الكثير من الدوائر والمؤسسات العربية بشكل عام. حقا لقد اغنى الحوار في هذه القصة عن الكثير مما يمكن ان يقال في عشرات المقالات، وكل هذا يحمد للقاص، ويدل على وعيه بوظيفة الحوار في القصة القصيرة. ولكن اسوأ ما في هذا الحوار هو لغته العامية، بل انه مجموع من العاميات العربية، ففيه عامية اهل القاهرة التي تقلب القاف همزة على نحو ما يظهر في وقول مرسي رئيس النساخ في شركة الامل (.. ألت احنا عاوزين كومبيوتر) المجموعة ص110 وفيه من عامية اهل الشام التي تظهر في مثل قول المحاسب اسعد.. "عم بدبح نفسي دبح كله كرمال ها الشركة".. المجموعة ص113.. وفيه عامية اهل الخليج في مثل قول ابراهيم وش قصدك المجموعة 111.. ان اضرار مثل هذه الجمل اكثر من منافعها، فهي تخلو من الابداع وتعطل رسالة المبدع عن السفر في ادمغة القراء، وتضع العراقيل امام المترجم الذي يحاول ترجمة المجموعة او ترجمة هذه القصة الى احدى اللغات العالمية، وما اظن هذا الامر يخفى على القاص وهو الذي تعاطي ويتعاطى مع اللغة الانجليزية بحكم عمله الذي ربما علمناه من خلال حديثه عن ارتياد الامكنة الذي جعل بطل هذه القصة يوغل في الرحيل شرقا وغربا وكأن القاص يعني نفسه بهذا الارتياد. وما اظن كذلك ان القاص عبدالله الناصر يعجزه ان يجري الحوار على ألسنة شخصياته بالفصحى، ولاسيما انه كتب لوحات وصفية، وقدم في المجموعة سردا شاعري اللغة، فصيح اللفظ، متين العبارة، فحكم النسيج يدل على وعي الكاتب بجماليات اللغة العربية. ونظرا لكثافة حضور السارد وغياب الشخصية اصبح القارئ اسير النظرة الاحادية للسارد، واصبحت جزئيات الحدث تصل اليه كما يراها السارد، نرى ذلك في قصة الايغال في ارتياد الامكنة، وقصة عصفور الغضب وقصة اشباح السراب. وباستثناء صوت المذيع لا نسمع في قصة وحق الفدا الاصوت السارد الذي يصف الموجودات، ويقدر ما يراه، ويصدر تعليقات اقل ما توصف به انها تعليقات تضع المتلقي في حالة من السلبية وتشك في قدرته على المشاركة الايجابية في استخلاص الدلالات. يعلق السارد على نبأ تلاه المذيع لسان عربي: ارهابي فلسطيني؟؟!! استشهاد خمسة جنود اسرائيليين كما يعلق في القصة نفسها على البطل وابنته قائلا: مسكينة ابنته، مسكين هو المجموعة ص59.. ان مثل هذه التعليقات ليست من الفن في شيء، بل هي معادية للفن لا لانها من موروث السرد البدائي فحسب، بل لانها تجعل السارد، وهو شخصية فنية لها سلطات محدودة، يتمتع بقدرات لا حدود لها، بها يصف ما تخفي الصدور، وبها يصدر احكاما يفرضها على المتلقي فرضا ممقوتا وكان وبوسع المتلقي ان يستخلص النتيجة نفسها التي استخلصها السارد في الاقتباسين الآنفين، وكم سيكون التلقي ايجابيا وفعالا في هذا الحال. واذا كانت الرواية الحديثة حدت من سلطات السارد، وبرأت من تعليقاته، واعطت المتلقى دورا ايجابيا في عملية التلقي، فمن باب أولى ان تتخلص القصة القصيرة من مثل هذه الموروثات السردية البالية، وان تثق بقدرات القراء، وبخاصة انها تقوم على التكثيف، وتقول الكثير من المعاني بالقليل من الالفاظ، ومن ثم فلا مجال فيها لفضول السارد. ومهما يكن من ثامر فان القاص عبدالله الناصر يمتلك لغة شاعرية تستحق النظر العلمي المتأني ولا اعرف اذا كان عبدالله محمد الناصر قد وظف هذه اللغة في الشعر وهي لغة تستحق كذلك التحية الواجبة من النقاد الجادين في زمن كثر فيه الحوار الاجوف وكثر فيه كذلك تغليب المجاملة على الحقيقة لكنني هنا كنت ناقدا محايدا واعتقد ان القاص عبدالله الناصر من ازهد الناس في المجاملات فهو قاص ارى المستقبل امامه مشرقا في الابداع الادبي، وانه لكذلك.. ان شاء الله. عبدالله الناصر