في مآلاتها البعيدة، والتي تسعى القصة القصيرة حثيثاً إلى تحقيقها، أن تصبح أُسلوبا للتفكير ينافس بقية الأساليب التعبيرية من حيث امتلاكها فرصاً وآفاقاً غير محدودة للبوح. هي الفسحة التي من خلالها يتهيأ للقاص أن يختبر أدواراً ممكنة للعيش في هذه الحياة افتراضياً، من دون أن يدفع ثمن التجربة، وتحمل نتائج خطورتها على المشاعر والأفراد المحيطين به. فالقصة القصيرة وفق نظرية السرد الحديثة، هي أشبه ما تكون ب"المحاكي التجريبي" في مراكز البحوث العلمية، التجريب على الرؤى المختلفة للحياة والمنظور الذي يعي به الفرد حقيقة وجوده في هذا الكوكب المتشظي، وذلك من خلال السعي إلى إبداع قيم جمالية وتنويرية تستوضح حقيقة (لماذا يفعل الناس الأشياء التي نفعلها لبعضنا البعض؛ ولأنفسنا) كما تقول الروائية تيري ماكميلان. أما عامل الجذب الآخر، والذي جعل الرواية والقصة القصيرة من أهم وأكثر وسائل التعبير عن الذات والعاطفة انتشارا، هو مسؤولية الكاتب عن الافكار المتضمنة في عمله ومدى مشروعية نسبتها إلى شخصه من عدمها. فهذا العامل الأخير هو من سيقودنا وبشكل طبيعي إلى التركيز على مفهوم "صوت السارد" أو الراوي، ودوره في العملية السردية، باعتباره شخصية تقنية تخيلية أو كائنا ورقيا، حسب تعبير بارت. ذلك الصوت الذي تصفه الناقدة نجاة وسواس، بأنه قد يغدو خفيا أحياناً، ويأخذ على عاتقه سرد الحوادث ووصف الأماكن وتقديم الشخصيات ونقل كلامها والتعبير عن مشاعرها وأحاسيسها، إنه كما تضيف الأستاذة نجاة، يتمتع بإمكانيات تفوق إمكانيات الإنسان العادي (المؤلف)، إنه حاضر في كل الأزمنة الحاضرة والماضية والمستقبلية منها، وهو عليم بكل ما حدث وما يحدث، عليم كذلك بالشخصيات وأحاسيسها وما قالته وما تقوله، إنه بشكل عام محيط بكل شيء. فوفق مفهوم السارد، سنتناول هذه التقنية المهمة بالتفصيل الآن وملابسات حضورها في مجموعة القاص زكريا العباد الجديدة "وجوه"، فزاوية الانطلاقة هذه قد أتت بتحريض من داخل نصوص العمل السردي نفسه، حيث تبرز وبوضوح جدلية المؤلف وصوت الراوي وتنازعهما على أحقية التأثير في مجريات أحداث القصة، ودور السارد ومدى سيطرته وتماديه في الشطح، كما في قصة زكريا القصيرة جداً "النهاية": (أنهى الكاتب وضع اللمسات الأخيرة لقصته. اقتصّ من البطل، فحرص على أن تكون نهايته مؤلمة وحزينة. أغلق الكتاب ونام. غير أن شخصيات القصة خرجت وعاثت في المكان ترسم ما تشاء بخلاف ما أراده الكاتب). السارد هنا قد أنجز ما يقول عنه ليونارد ديفنشي: "لا يدرك الفنان مغزى أي عمل ما لم ينته منه ويستكمله". وبالتنقل في مجموعة القاص العباد، نرى أن السارد لم يكن محايداً في حضوره في أغلب القصص، بمعنى أنه لا يدع الحكاية بشخوصها تمضي وتتدرج باتجاه فك العقدة الدرامية من دون السيطرة والتوجيه، بل يأخذ دورا محوريا في التأثير المباشر، إنه حتى يمارس التجريب والمفاضلة بين إنهاء الحكاية عند هذا الحد من التصعيد الدرامي أو جلب مزيد من الأحداث! وهذا يتضح في قصة "وجوه". ففي الحكاية نجد أن بطلها فيصل يقوم بسرد حادثة وفاة والدته نتيجة الحريق الذي وقع اثناء طهوها الطعام، لكن السارد في هذه الحكاية يتدخل وبشكل سافر ليجلب حكاية أخرى مشابهة حدثت لصديق آخر هو "جاسم"، ويقارن السارد بين الحادثتين ويكون هو المتحدث الرئيسي والشخصية التي تحتل واجهة الحكاية بتبديله لوجوه المتحدثين، ثم يعتذر بقوله: (تشابه الحكايتين أربكني، لكأن الأرواح تتناسخ في الأجساد بطريقة أجهلها، ظهر جاسم في تلك اللحظة بالذات، وقد كنت سأظن في لحظة فنتازية أن جليسي هو جاسم، أو أنهما شخصٌ واحد، أو أن القصة واحدة يعيد الزمان إنتاجها). لا يكتفي السارد بذلك التداخل بين شخصيتي فيصل وجاسم، بل يحاول الربط والإحلال مع باقي وجوه أصدقائه (تتناسل الأسئلة: من هم الأشخاص الذين يمكنني أن أربطهم ببعض؟) أما في قصته "جولة في مكانٍ قديم"، فيتداخل صوت المؤلف مع صوت السارد حتى يصعب التفريق بينهما (أعود إلى كتاباتي القديمة.. الكلمات خرجت عن النصوص، فرفضت ما قاله الكاتب، سالت خارج المجرى المخصص لها. ثمة كلمات تقابلني بارتياح، أخرى تبدو قلقة في مكانها). رفض السارد ومخالفته للكاتب؛ بسبب أن الكلمات في حقيقتها هي (بشر في الورق.. امرأتي التي تعود إلى الخامسة عشرة كلما قابلتها في الكتابة.. لا شر يصمد أمامها ولا حتى قوانين النظام وتناسق الجمال) هل هو صوت السارد أم المؤلف؟؟ بالرغم من أننا قد سلطنا الضوء فقط على استخدام القاص زكريا العباد للأداة المهمة في القصة "صوت السارد"، إلا أنه قد حيد هذا الصوت في قصص أخرى من هذه المجموعة والتي ضمت عشر قصص قصيرة وسبع قصص قصيرة جداً، تعددت مواضيعها بين البوح الذاتي والحكاية التي تميزت بأسلوبها السلس ورصانة اللغة المعبر بها، مع إتقانه لباقي الأدوات الضرورية لكتابة القصة القصيرة بمهارة واحتراف.