أستأذن القراء الكرام في استعارة هذا المثل التونسي «كيف لا ييبس الملاط في وجوههم؟» الذي يستخدم عندما يكون أحدهم عديم الحياء، إلى الدرجة التي لم يعد يحس بضرورة الإبقاء على شيء منه ليتقبله الناس؛ فينافق ويكذب ويتملق دون حدود، ولا يستحي من تكرار ذلك مع أناس قد جربوه بتكرار الآليات نفسها. وفي ثقافة شبه الجزيرة العربية نطلق على مثل هذه العينات: «مغسول وجهه بمرق»! وربما كان المثل التونسي أكثر دقة من المثل الذي نعبر به عن هذه الحالة. أما النموذج الذي أود تطبيق هذا المثل عليه، فهم أناس يعيشون في عصرنا الحاضر، لكنهم لا يستمدون من هذا العصر أي مبادئ أخلاقية شائعة لدى أغلب الأمم المعاصرة. عرفوا بعضاً من وسائل هذه الحياة التي يعيشها البشر، وظنوا أن معرفتهم السطحية بتلك الوسائل، تخوّل لهم أن يتعاملوا بها كما يشاؤون، أو مثلما توحي لهم به سلوكياتهم الأخرى، التي لا تمت إلى هذا العصر بصلة. وتعدّ أكثر المجالات التي يتضح فيها عري هذا النموذج هي وسائل التواصل الاجتماعي، التي اقتحمها عدد كبير منهم، ظناً منهم أن استخدامها لا يتطلب إلا أجهزة واتصالاً بشبكة الانترنت، واستدعاء رصيد مختمر من الغثاء الذي يصدّعون به رؤوس الناس، ويكشفون عن أخلاقهم أمام الملأ قبل كل شيء. ساورتني شكوك في مدى صحة عقول بعض من يأتيك عنوة في أي مجال للتواصل العام، وأنت قد لا تعرفه، وليس بينك وبينه سابق صلة؛ فيحاكمك بكلام يقترب من مرافعات المحاكم، وبلغة قد لا تصلح في شارع أو حتى بين المرء ونفسه، فضلاً عن أن تكون لغة خطاب عام، ومع من لم تُرفع بينهم الكلفة. لكن بعد أن تحققت من ورود تلك المغالطات، وسوء استخدام وسائل التواصل العامة، فيما يسيء لسمعة تلك الفئات، بل ويحط أحياناً من قيمة مشاركات أهل بلد أو إقليم بعينه في عيون الآخرين؛ عرفت أن الحالة ليست خبط عشواء، بل هي نتاج ثقافة تمخضت عنها حقبة التحزبات، وكَيْل المحفزات على سوء الخلق واختيار أبشع الألفاظ. أحدهم يتابع الآخرين في تويتر وغيره من وسائل التواصل، ثم يتحرى من خلال التفتيش في الحساب، ويبدأ في المحاسبة، وتأويل المواقف بما يريد من الاستنتاجات، وأخيراً يخرج بحكم كلي عن هذا الشخص الذي لم يدْعُه إلى تواصل، ولم يكن بينهما ما يستدعي أن يشقي نفسه بمتابعة أفكار أشخاص آخرين ليس بينه وبينهم أي صلة فكرية. لكنها العبثية والفراغ الموحش الذي يحس به كثير من الناس في هذا الجزء من العالم؛ وسوء الفهم لوجود هذه الوسائل، التي يظنون أنها قد وجدت من أجل أن يتراشق الناس بالألفاظ والتهم، ويتعقبون بعضهم بعضاً في منازلات مهينة لكل من لديه ذرة عقل، ويسعى للبناء بدلاً من الهدم والفوضى. عندما اشتكى لي صاحبي عما يعانيه من أناس أغلبهم حديثو السن، أو من ذوي الهويات المجهولة، قلت له: لا تتعب حالك في التوجع ممن هم موجوعون أصلاً، وصارت هممهم محصورة في ميادين التراشق بين جماهير الأندية الرياضية، أو التحزب لفئات يظنون أنهم يحسنون صنعاً. قال: أو لم تجد منهم بعض العنت؟ قلت: بلى، ولكني لم أجد وقتاً لإصدار طبعات ثانية من بعض كتبي التي نفدت، حتى أجد الوقت لهؤلاء الذين يسرهم أن يلتفت إليهم الساعون إلى البناء، من أجل أن يحسوا بأنهم وإياهم سواء.. هزلت إن كنا سنسعفهم بمزيد من الملاط!