الأحكام الشرعية عامة لجميع العباد، العلماء وغير العلماء، لكن حواري الآتي مع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة لسببين: الأول أن العالم مسؤول عن علمه وهل طابق علمه أم خالفه؟ الثاني: أن العالم قدوة يحتذي به عامة الناس حيث انتشر الخضاب بالسواد واتصف به كثير من العلماء والدعاة ومن نتوسم فيهم الزهد والصلاح. وإذا كان حرية الكلمة لها مجال لأجل الوصول إلى الحقيقة الشرعية عبر هذه الجريدة المباركة فإنني أقول: ربما ظفر الخاضبون لحاهم بالسواد بدليل يبيح لهم فعله غير ما سأذكره آتيًا فباب الحوار مفتوح وزودونا بما ظفرتم به لتعم الفائدة بدون تأويلات شاطحة وأوهام واهية لا أصل لهما في شرع الله، وقلت إن أهم ما تشبث به مجيزو الخضاب بالسواد لأنفسهم ولغيرهم الأمور الآتية: أولًا: يقول بعضهم إن الخضاب بالسواد قضية خلافية، قلت: وهل الخلاف في أي مسألة حجة تستبيح بها مخالفة النصوص الشرعية؟ كلا ثم كلا، لأن الخلاف الذي لا دليل عليه مضروب به عبر الحائط وإن قال به من قال. ثانيا: قد يقول بعضهم إنني أبرز في وسائل الإعلام وأرغب أن يقبل قولي ويستجيبوا لدعوتي، قلنا له: عليك أن تتمسك بسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ونفذ أوامره حتى يقبل قولك وتجاب دعوتك إلى الله ولا تطلب الأمور بأضدادها، وذلك بأن تعمل بما علمك الله لأجل الله لا لأجل الناس، ثم إن الشيب نور ووقار لا عيب فيه، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم:- (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة) رواه أبوداود والترمذي والنسائي بأسانيد حسنة. ثم إن العمل لأجل الناس رياء، والرياء من الشرك الخفي، وفي خضاب السواد غش وخداع لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم. ثالثا: احتج بعض علماء عصرنا بما روي عن بعض الصحابة بأنه خضب بالسواد. قلت: إن هذه شبهة لبست على كثير من العلماء وطلاب العلم، وأخذوها كما قيل خبط عشواء دون تمحيص وتأكيد عن ما نسب عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث نسب هذا الفعل إلى عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وجرير وغيرهم، نقل ذلك ابن القيم عن ابن جرير من كتابه تهذيب الآثار. والجواب على نسبة الخضاب بالسواد إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم: أولًا: أن من نسب إليه الصحابة أنه كان يصبغ بالسواد فقد نسب إليه الصبغ بالحناء والكتم، فكيف نأخذ بما تهوى أنفسنا، ونترك الجانب الصحيح. ثانيا: إن النصوص التي تحرم الخضاب بالسواد لم تبلغ من نسب إليه هذا الفعل، لأن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يحط بجميعها الصحابة، فعند هذا ما ليس عند الآخر كما لا يخفى على العالم المنصف وهل يظن من لديه أدنى إيمان أو علم بأحوال الصحابة أنهم سمعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول (وجنبوه السواد) ويخالفون ذلك؟ هذا أمر مستحيل، لاسيما بعض الصحابة المشهود لهم بالجنة كثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، ومن ظن ذلك فقد أثم لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) ولما جاء في الحديث (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). ثالثا: قال ابن القيم رحمه الله في (تهذيب السنن): إن نسبة الخضاب بالسواد إلى بعض الصحابة فيه نظر، قال: ولو ثبت فلا قول لأحد مع قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسنته أحق بالاتباع ولو خالفها من خالفها. قلت: وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومن العجائب أن بعض طلاب العلم قال لي: إن فعل الصحابة نسخ قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-!! فانظر إلى جهل هذا بما يقول. وإليك بعض النصوص التي تحرم الخضاب بالسواد: أولًا: روى مسلم عن جابر رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأخرج البيهقي والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة أبي قحافة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال(غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد.. الحديث). وقد زعم بعض المتأخرين أن لفظة (وجنبوه السواد) مدرجة من كلام عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، وقد اعتمد على هذه الفرية بعض علماء عصرنا وكأنه ظفر بما لم يظفر به غيره حيث وافقت رغبته، والجواب على هذا الإدراج: أولًا: أنه لم ينقل عن ابن جريج أنه زاد في الحديث (وجنبوه السواد) حيث لم ينص الراوي على هذه الزيادة، ومن القواعد المصطلح عليها في علم الحديث أن الراوي ينص على الزيادة، ومادام لم ينص عليها علمنا يقينا أنه من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثانيًا: ابن جريج المذكور عالم جليل وعابد فاضل، فكيف يظن به أنه دس في حديث الرسول ما ليس منه مع علمه بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار). قال ابن حجر: إنه ثقة كثير الحديث، وأثنى عليه العلماء علمًا وعملًا، قلت: وما روي عنه من التدليس غير مقبول لأن الأصل من علماء الشريعة العدالة والعدالة مقدمة على الجرح عند علماء الحديث. ثالثًا: إن كلمة (وجنبوه السواد) أثبتها فحول العلماء، ولم ينقل عنهم أنها مدرجة ولو كانت مدرجة لنبهوا على الإدراج، ومن هؤلاء العلماء النووي الذي شرح الحديث في صحيح مسلم، وكذلك ابن القيم في تهذيب السنن، وابن حجر في فتح الباري، والشوكاني في نيل الأوطار، ومن علماء عصرنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمهم الله جميعًا. قلت: وقبل هؤلاء إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله حيث قيل له: أتكره الصبغ بالسواد، قال: إي والله لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :(وجنبوه السواد) ويعني بالكراهة كراهية التحريم كما لا يخفى. رابعًا: أن الحديث رواه الإمام أحمد في مسند أنس بسند ليس فيه ابن جريج، ورواه الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة بسند أيضا غير سند ابن جريج. ومن الأدلة على تحريم الصبغ بالسواد غير حديث جابر: أولًا: ما رواه الإمام أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي من حديث ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة). وقد غلّط علماء الحديث ابن الجوزي حيث جعله من الموضوعات لأنه جعل عبدالكريم بن مخارق في سنده والصحيح أنه عبدا لكريم بن الجزري ثقة. ثانيًا: روى الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يكون في آخر الزمان قوم يسودون أشعارهم لا ينظر الله إليهم). قال الهيثمي: إسناده جيد. ثالثا: روى الطبراني من حديث أبي الدرداء : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من خضب بالسواد سوّد الله وجهه يوم القيامة). قال ابن حجر: في سنده لين، ووجدنا أن هذا اللين كون أحد رواته رجل اسمه الوضين بن عطاء الخزاعي، اختلف في توثيقه وتضعيفه، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وثقه الإمام احمد بن حنبل ويحيى بن معين ودحيم وبن حبان، وضعفه من دونهم في المنزلة، وبقية رجال الحديث ثقات. وقال أهل العلم إن أقل أحوال هذا الحديث حسن لذاته، والحسن يحتج به عند الجمهور، وقالوا لا نقبل التضعيف إلا مفسرًا. قلت: وقد وردت أحاديث غير ما ذكرت، فلا نطيل. ثم إن الخضاب بالسواد الفاحم تمويه على الحقائق والكذب الفعلي يكون فاعله يقتدى به، فيكون قد سن للناس سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها كما جاء في الحديث الذي لا يخفى. وأقل الأحوال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كما في الحديث، في حين إن خضاب الشعر بالسواد لا ريب فيه ولا شبهة لدلالة النصوص النبوية على ما أسلفت بعضها، ونخشى أن يكون الاستمرار في الخضاب بالسواد كبيرة لأن فاعله خالف أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).قال ابن كثير: (الفتنة في الدين بالكفر أو النفاق أو البدعة). ثم إن البديل في متناول أيدينا وهو الكتم واللون البني تخلط نسبة 30% على الحناء الموجودة في الأنابيب بشكل مرهم يعطي اللون البني بدون أن نلجأ إلى الأسود المحرم، ولكن الأمر كما قيل: ومن العجائب والعجائب جمة قرب الشفاء وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول وهل تريد أن تستعيد الشباب الذي مضت أيامه وفاتت أوقاته واشتعل المشيب في سواده كما قال ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا وقال الآخر في هذا المعنى: عريت من الشباب وكنت غضا كما يعرى من الورق القضيب ونحت على الشباب بدمع عيني فما نفع البكاء ولا النحيب ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب نسأل الله حسن الختام، فما بعد الشيب إلا الرحيل إذا أناخ ببابه الجمال، كما قال شاعر الحكمة زهير بن أبي سلمى: أرى المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم مع أننا نقول بأن الأمور مقدرة من الله العلي القدير. وعليه فالحق واضح والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. اللهم ارزقنا الإنصاف في القول والعمل.. والحمد لله وحده. •القاضي بمحكمة جدة متقاعد