العراق في هذه المرحلة، أشبه برقعة شطرنج، واللاعبون كثر، ولكل منهم إستراتيجيته الخاصة. جميع اللاعبين، يلتقون عند شعار واحد، هو محاربة داعش، لكن لكل منهم فهمه الخاص لهذه الحرب ولحدودها. ومشهد الصراع على العراق، يبدو مركبا ومعقدا، وأشبه بلوحة سريالية، نعمل في هذه القراءة على تفكيك طلاسمها. القوى الضالعة بشكل رئيسي ومباشر في شؤون العراق هي أربع دول، منها قوتان دوليتان هما الولاياتالمتحدة التي تقود تحالفا دوليا للحرب على «داعش» في العراقوسوريا، وروسيا الاتحادية، التي تتحالف مع قيادتي إيرانوسوريا. وقد بدأت علاقتها مع أمريكا تأخذ طابعا صراعيا، منذ بدء الأزمة السورية، وتصاعدت خلافاتها مع أمريكا والاتحاد الأوروبي بعد الأزمة الأوكرانية، بما يشي بأن العالم على أعتاب حرب باردة جديدة، وقوتان إقليميتان هما إيران وتركيا. ذلك لا يعني أن ليس هناك أدوار لدول أخرى، لكن هذه الأدوار هي في النهاية، ملحقة للتحالف مع واحدة من القوى الأربع هذه. فالموقف الأمريكي من هذه الحرب، لا يستند على حسم سريع لها. قد انقضت قرابة خمسة شهور، بدأ التحالف الدولي حربه على داعش في سورياوالعراق. وخلالها اتضح من تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ومن خلال ضربات قوات التحالف الخجولة على مواقع داعش في البلدين، أن الإدارة الأمريكية ليست في عجلة من أمرها. فالتصريحات الأمريكية استمرت في الحديث عن حرب طويلة، في أدناها ثلاث سنوات وقد تصل إلى عشر سنوات، على تنظيم داعش الإرهابي. يسجل في هذا السياق، أن داعش لم تبدأ بالاستيلاء على الأراضي العراقية منذ عام، وأن قواعدها الآمنة في العراقوسوريا، وبشكل خاص في محافظة الأنبار في العراق ومحافظة الرقة في سوريا منذ عدة سنوات ولم تحرك إدارة الرئيس أوباما ساكنا إلا عندما اقتربت داعش من مدينة أربيل في شمال العراق. وقد أوحى ذلك لكثير من المراقبين، أن أمريكا حريصة على استكمال خريطة تقسيم العراق، وإلا فما الذي يفسر حرصها على بقاء أربيل، بمعزل عن سيطرة داعش، وهي التي أغمضت عينها عن احتلال داعش للأنبار ونينوى وصلاح الدين. لقد تأكد سلوك الإدارة الأمريكية تجاه تحركات داعش، إلى أن أقصى ما تريده هو احتواء هذا التنظيم، والتحكم في حركته، وليس القضاء عليه. روسيا الاتحادية في هذا السياق، ليست لها سياسة خاصة بها، فهي مع سياسة إيرانوسوريا، وضع ثقلها السياسي والعسكري، في خدمة هذه السياسات. وإذا ما أخدنا مواقف القوى الإقليمية، فإننا نلحظ تنافسا شرسا على كلا البلدين. الأتراك يتطلعون بشكل إيجابي إلى حراك داعش. فهذا الحراك، سيسهم أولا في إضعاف بشار الأسد، العدو اللدود لحكومة أردوغان. وهو ثانيا، سيسهم في استمرار ضعف الدولة العراقية، بما يتسق مع الإستراتيجية التركية في المنطقة، التي تتطلع إلى لعب دور إقليمي أكبر في المنطقة بأسرها. وهو ثالثا، يشل عمق طهران الإستراتيجي الممتد إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ويجعل التفوق إستراتيجيا، لصالح التمدد التركي بالمنطقة. الإيرانيون، من جانبهم، تطلعوا إلى دور أمريكي يلجم داعش، وينهي طموحاتها في تشكيل دولة على أرض العراق والشام، لكنهم اكتشفوا مؤخرا أن هناك افتراقا حادا بين الإستراتيجية الأمريكية، والمصلحة الإيرانية من القضاء على تنظيم داعش. بالنسبة لإيران، فإن تمدد داعش، يعني إمكانية سقوط حليفهم في دمشق، ومحاصرة حزب الله في لبنان، وخسارتهم للعراق، الجائرة التي قدمها الأمريكيون لهم على طبق من ذهب، بعد استكمال العملية السياسية. ولم يكونوا في كل الأحوال في وارد التخلي عن المكاسب التي حققوها بأرض السواد. يضاف إلى ذلك، أنهم استثمروا كثيرا، في بناء حزب الله كمؤسسة رافدة لإستراتيجيتهم في الوصول إلى حوض المتوسط. وقد أصبح التمسك بهذه المكاسب بالنسبة للإيرانيين مسألة وجود. الإستراتيجية الأمريكية، في العراق تعتمد على النفس الطويل وعدم نزول القوات الأمريكية على الأرض، والاكتفاء بالضربات الجوية. وذلك ما يتلاءم مع سياستها تجاه النظامين العراقي والسوري، اللذين يقيمان تحالفات قوية مع طهران. فهي لا ترغب أن تخوض حربا بالوكالة عن إيران على أرض العراق. ولا تريد انهيار التنظيمات المتطرفة المعارضة للنظام السوري، قبل استكمال تشكيل قوة معتدلة، كما هو مخطط له ومعروف. إن القضاء على التنظيمات المتطرفة، مع غياب التنظيمات المعتدلة على الساحة السورية، يعني انتصارا محققا لدمشق، وهزيمة ماحقة «للثورة السورية». ولذلك تنتهج السياسة الأمريكية، في الحرب على داعش، نهج بين-بين. فهي لا تريد هزيمة نهائية لداعش، ولا تريدها أن تحقق انتصارات باهرة بالبلدين. بالتأكيد ترغب الولاياتالمتحدة في إبعاد خطر داعش عن آبار النفط، وتريد أيضا حماية الشمال العراقي، والمنطقة الكردية من التفتت والسقوط في أحضان التنظيمات المتطرفة، لكنها لا تمانع في استمرار سيطرة داعش على محافظة الأنبار. أما الإيرانيون فموقفهم مخالف جذريا للموقف الأمريكي من الحرب على داعش. فهم على نقيض الموقف الأمريكي غير المتعجل في تحرير الأنبار. فاستعادة هذه المحافظة للدولة العراقية، هي أولوية في الإستراتيجية الإيرانية، لكونها الطريق البري الموصل إلى دمشق، وجنوب بيروت. وهم لا يمانعون مرحليا، في أن تسقط أربيل بيد داعش، ويقومون هم مع الدولة العراقية باستردادها لاحقا، لأن ذلك سيضعف المطالب الكردية، المعلنة وغير المعلنة، في الانفصال التام عن المركز في بغداد، واكتساب صفة الدولة المستقلة. ولذلك فإن مخططهم يقوم على استرداد صلاح الدين أولا، وتعزيز ذلك باستعادة بعقوبة، المجاورة لمحافظة صلاح الدين، والتوجه بعد ذلك لتحرير الأنبار، وليس نينوى، حيث مدينة الموصل. الذهاب إلى الأنبار وليس نينوى، يحقق ميزتين للإستراتيجية الإيرانية. فهي أولا ستتمكن من خلال تحرير الأنبار من استعادة عمقها نحو بلاد الشام، وثانيا، لأن تحرير الأنبار أمر أسهل كونه ليتم في أرض مكشوفة، وبدون كثافة سكانية، في حين تعتبر الموصل، المدينة الثالثة في العراق، حجما وكثافة سكانية. يضاف إلى ذلك، أن التنسيق مع الجيش السوري، غربا، يجعل داعش بين فكي كماشة، حيث يطبق الإيرانيون والجيش العراقي والحشد الشعبي شرقا، والجيش السوري وحزب الله غربا، فلا يكون أمام عناصر داعش إلا الموت أو الاستسلام. بالنسبة إلى الموصل، يشكل اتصالها بالأراضي التركية عاملا مساعدا لداعش، فهو يبقي طريق الإمداد مفتوحا من الشمال ويتيح لهم سبل المناورة والهروب بدلا من الموت أو الاستسلام. يضاف إلى ذلك أن الموصل مدينة كبيرة، بكثافة سكانية عالية، واقتحامها يعني تقديم خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات من قبل الإيرانيينوالعراقيين، على السواء. ولذلك لا يتوقع أن يبادر الإيرانيون وملحقاتهم إلى تحرير الموصل الآن، وسوف تبقى شأنا مؤجلا إلى حين تحرير الأنبار، وبقية مناطق صلاح الدين. الغائب الوحيد، في السنوات الأخيرة في المشهد هو الجيش العراقي، وقد خسر كل معاركه قبل عام عندما احتلت العشائر العراقية، وداعش أربع محافظات عراقية، في فترة قياسية قصيرة، هزم لأنه يفتقر إلى الهوية الوطنية، ولم تكن له هوية أخرى بديلة عنها. فقد كان هذا الجيش خليطا من مكونات النسيج العراقي، ولكنه لم يحمل هوية وطنية، بسبب سيطرة ميليشيات الطوائف على السلطة في المركز، بغداد. الآن يخوض الجيش العراقي، مدعوما بمستشارين وضباط إيرانيين، وقصف جوي مكثف على مواقع داعش. لكن العنصر الحاسم لاقتحام تلك المواقع هو للحشد الشعبي. والحشد الشعبي عماده قوات بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، (سابقا) الذي يقوده آل الحكيم، وحزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة الحالي العبادي ورئيس الحكومة السابق، المالكي. والتيار الصدري، وتتبعه عصائب الحق. وجميعها قوى طائفية، كان لها الدور الأساس، في حرق المكتبات والاعتداء على المتاحف، ومرافق الدولة ونهب الجامعات والمصانع في الأيام الأولى التي أعقبت الاحتلال الأمريكي. لقد كان دور هذه القوى واضحا وجليا في تدمير الدولة الوطنية العراقية، والعمل على إلغاء الهوية العربية من ذاكرة العراقيين، والقتل على الهوية، وإعادة تشكيل العاصمة بغداد بطرد العراقيين من الطائفة السنية من أحياء كاملة من مدينة بغداد، كحي العدل واليرموك والشرطة. ومن خلال هذه العصابات حققت إيران هدفها في الانتقام من التاريخ. تاريخ هذه الميليشيات، يؤكد بوضوح وبغض النظر عن التفاصيل التي تنقلها لنا وكالات الأنباء، أنهم غير مؤتمنين على العراق وشعبه. ولا يتوقع منهم/ بناء على ماضيهم بعد الاحتلال، أن يلتزموا بأخلاقيات الحرب، وأن ينأوا بأنفسهم عن ارتكاب ما هو مخل بها. لقد دخلت عناصر الحشد الشعبي إلى أطراف محافظة صلاح الدين، واقتربوا من مدينة كركوك، والهدف المعلن لتحركهم هو تحرير صلاح الدين من سيطرة داعش، لكن هدفهم الحقيقي لم يقتصر على داعش، بل هدف إلى تصفية عناصر المقاومة العراقية، التي قادت عمليات تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي، فكان أن وجهوا حرابهم إلى عناصر هذه المقاومة. ما حدث في صلاح الدين هو تكرار للمشهد، الذي شهده العراق بعد الاحتلال. والمواجهات في الأيام الأخيرة تدور بين الحشد الشعبي وأتباع الطريقة الصوفية المعروفين بالنقشبنديين. وفي هذه المواجهات كان القتلى من المدنيين يفوق بكثير صرعى عناصر المقاومة. ولم يكن ذلك اعتباطا، بل كان استعادة لروح الانتقام والثأر والكيد من التاريخ. الأمريكيون الذين سلموا العراق، بعد الاحتلال مباشرة إلى إيران، من خلال تسليمهم السلطة لقادة هذه الميليشيات، يعيدون تكرار نفس الخطأ الآن، تحت ذريعة عدم رغبتهم في نزول قواتهم على الأرض، وأيضا بناء على حسابات ما بعد التوقيع على إقفال الملف النووي الإيراني، ورفع الحصار، وإقامة علاقات متينة مع ملالي طهران. الحراك العربي الأخير، الهادف لمكافحة الإرهاب ينبغي أن يضع نصب عينيه، هذه الحقائق، وأن لا يترك الشعب العراقي فريسة إما لداعش إو لإرهاب ميليشيات الطوائف من الدعوة وبدر والتيار الصدري وعصائب الحق وملحقاتها. عروبة العراق واستقلاله ووحدة أراضيه، هي أهداف لا تقل وجاهة عن محاربة الإرهاب وينبغي أن تكون في سلم الأولويات من اهتمامات الأمة العربية. وبدون استعادة الهوية الوطنية العراقية، وتأكيد عروبة العراق فإن ما يجري في العراق سيتحول إلى حرب الإرهاب ضد الإرهاب، وهي حرب لن يكتب لها أن تستعيد للعراق استقلاله وكرامته.