العملة احد الرموز الوطنية التي تبادر الدول إلى إبرازها فور تأسيسها أو استقلالها، وتحاول تكريس موروثها التاريخي عبر تأصيله عند سك العملة، وتعتبرها النافذة التي تطل منها على العالم ولهذا نجد أن بريطانيا تحفظت على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي حفاظا على هويتها، وحرصا على نفوذ عملتها التي ستضطر إلى تمحورها داخليا في حالة الاندماج النقدي مع أوروبا في عملة اليورو، وإسقاط الجنيه من سلة العملات في التبادل التجاري بين الدول وهو المؤشر لقوة العملة وتعطي رمزية لقوة الدولة. وهذا أعاق كثيرا من حوارات الوحدة الاندماجية بين الدول حتى المتجانسة، مثل دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغربي ودول البحر المتوسط والاتحاد الإفريقي، بالرغم من تشابه الأنظمة وتشابك المصالح واتفاق المعايير بينهم في وحدة الجغرافيا والتاريخ. وعندما أتحدث عن الوحدة النقدية سأحترم هذا التوجيه وسأتناولها من منظور أحاديتها، وليس وحدتها للابتعاد عن محاذير الإعاقة وحوار الطرشان، حيث إن عملاتنا الخليجية لديها امتيازات الدعم والانفتاح بدون قيود أو تحديد، وفي نفس الوقت لها خصوصيتها في التفرد المحلي، فهي تطغى على مجمل التعاملات في بيئتنا الخليجية، فنادرا ما نجد قبولا عند تجار التجزئة للدولار أو الجنيه أو الين أو المارك أو الفرنك أو أي عملة أخرى مهما كانت قيمة التداول، عكس ما يحدث في كثير من الدول التي ترحب باستخدام العملات الأجنبية إلى درجة أنها تباع في السوق السوداء وهذا ينتج من القيود المفروضة على حركة النقد. وأنا هنا لست في مجال تقييم الانفتاح أو التقييد، ولكنني فقط أردت أن نستفيد من سياسة الانفتاح لدينا للابتعاد عن التقوقع الجغرافي، لان الأنظمة المالية في دول مجلس التعاون الخليجي لم تصدر قانونا بمنع التداول النقدي المشترك بين أعضائها، حتى قبل توحيد العملة لخلق الشعور بوحدة الهدف والتآلف مع الاندماج وتعويد الناس على التعاون المشترك. فأصبحت هناك جزئية من هذا المشهد التكاملي قد ظهرت بوادرها بشكل طوعي بين الجمهور بتقبل الفكرة، يدعمه الزخم في التبادل التجاري والترابط الاجتماعي، فوجدنا نموا متسارعا في هذا الاتجاه، خاصة في المناطق المرتبطة حدوديا ببعضها، فمثلا في الأحساء قبول تجار التجزئة بالريال القطري، وفي الخبر والدمام انتشار للدينار البحريني وفي الخفجي يتداولون الدينار الكويتي. وعلى نفس الوتيرة استجاب تجار التجزئة في كل من المنامة والدوحة والكويت، وذلك دون سابق تشريع، وهذا له دلالاته القطعية بالتفاعل الارتباطي الذي لم تصاحبه عوائق أو تعتره عقبات أو مشاكل، مع إزالة كل التحفظات المثارة حول هذه الصيغة التي سبقت قرارات توحيد العملة، ولم يتعارض ذلك مع التوجيهات الرسمية وحققت جزئية من التكامل المطلوب. وهذا المسلك سيفتح لنا قنوات اتصال تؤازر الوحدة والتكامل المنشود، دون الدخول في دهاليز ومعابر المؤتمرات والقرارات التي تحتاج إلى مصنفات وتحليلات ومحاضر وجلسات حوارية تسبق خطوات التنفيذ. وأصبح مألوفا أن تجد عائلات بحرينية تتسوق في مدينة الخبر والدمام، وكذلك عائلات سعودية تتسوق في المنامة والمحرق مما زاد من وتيرة التواصل الجمعي بين الأسر التي كانت مرتبطة بالمصاهرة والنسب. ومن المظاهر اليومية تلك الصفوف المتراصة في جسر عبور البحرين وعلى مدار الساعة، وتؤكده الإحصائيات التي تعدها إدارة الجسر والتي تعتبر شاهدا حيا على أن الاندماج لا تصيغه القرارات وحدها، ولكن هناك وسائل دفع ذاتية يؤصلها التاريخ والجغرافيا والدين واللغة، فهي التي تفرش الأرضية للتواصل والتراحم والانسجام الروحي بين الشعوب، وليس بغريب أن تجد في حفلات الأفراح أو في مواكب التعازي حضورا متبادلا بين الخليجيين، مما يعيد لك صورة الأمس القريب وتنامي مجسداتها يوما بعد آخر، ليرسل همسه الخفي إلى أمانة مجلس التعاون الخليجي ليقول لهم: سيروا على مهلكم ونحن على درب التلاحم سائرون. * باحث وكاتب