-في قصيدته التفعيلية المعنونة ب (وحدة العشق) يظهر لنا اتحاد العشق مع تضاريس الوطن -امتد همه الشعري أيضاً بمساحة امتداد رقعة العالمين العربي والإسلامي ديوان (غربة) هو آخر ديوان شعر صدر للدكتور الشاعر إبراهيم بن محمد العواجي، وقد سبقه صدور تسعة دواوين للشاعر تم صدورها على فترات زمنية متباعدة ومختلفة باختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتيارات الفكرية (الأيديولوجية) التي مر بها المجتمع على كافة الأصعدة وخاصة خلال العقدين الماضيين من الزمن تحديداً، والتي جعل منها العواجي – كشاعر – المحور الرئيسي الذي تتمحور حوله جميع قصائده. بل وجعل منها أيضا – كإنسان مخلص لدينه ووطنه وأمته – همه الأول وقضيته الإنسانية الكبرى، الحاضرة معه أينما كان، بكل تفاصيلها والتي تربطه نفسياً وعاطفياً وحسياً بجميع من حوله من أبناء مجتمعه بآمالهم وآلامهم. ويلاحظ القارئ أن معظم دواوين العواجي قد صدرت خلال العشرين سنة الماضية، وهي فترة حرجة جدا في تاريخ المجتمعين الخليجي والعربي بوجه خاص، والمجتمعين الإسلامي والدولي بوجه عام، أدت إلى تغير في مستويات عدة في بنية المجتمع من نواح سياسية واقتصادية وفكرية، كان من أبرزها على الإطلاق حربا الخليج الثانية والثالثة، وأحداث (الحادي عشر من سبتمبر) والحرب الدولية ضد الإرهاب والتطرف ومكافحته. وليس أدل على ذلك من اكتظاظ جميع دواوين الشاعر – السابقة منها واللاحقة - بكم هائل من الصور الفنية والتعابير الشعرية، والألفاظ أو المفردات المفعمة بسمو الروح وإقصاء الذات ونبل الهدف، وإنسانية الموقف تجاه كل ما يثير قريحته – كشاعر – وكل ما يقلق عقله ويشغل تفكيره – كمثقف أو مفكر – وتجاه كل ما يحرك هواجسه ومشاعره كإنسان. ويأتي ديوان (غربة) للعواجي أنموذجاً شعرياً واضحاً لتفاعل شاعره تفاعلاً حياً مع محيطه الاجتماعي بأبعاده الإنسانية بكل ما تحمله كلمة تفاعل من معنى. وهذا مرده – أساساً – إلى المنظور الحقيقي الذي ينظر من خلاله العواجي إلى الشعر باعتباره (كائناً حياً) يعيش بين ظهرانينا، ولا بد أن يتحدث ويتغنى ويرقص ويحلم ويأمل ويتنفس، ويسعد ويحزن مثلنا تماماً، وأنه لا بد لنا جميعاً من احترامه وتقدير وجوده بيننا كأداة من الأدوات الفنية المعبرة عما يجول في أنفسنا وأذهاننا، وكعامل ذي فاعلية مفرطة في حساسيتها ودقتها وتأثيرها ولغتها الراقية التي ترتقي بمستواها عن الكلام العادي. إن من يقرأ ديوان (غربة) أو يتصفحه لا يمكنه أن يصنف شاعره تصنيفاً تقليدياً – كما جرت عليه عادة بعض الأكاديميين أو نقاد الشعر الممنهج - بحيث يمكن أن ينسبه - بسهولة – لمدرسة شعرية معينة: كلاسيكية، واقعية، رومانسية، رمزية، حداثية، سريالية ... إلخ. وإنما الأصح أن نقول إن العواجي استطاع عبر هذا الديوان أن يكون مركباً شعرياً يجمع في تكوينه بين عدة فنون شعرية في آن واحد، أي إنه "أخذ من كل فن بطرف" أو "من كل بحر قطرة" وربما كان كل من هذه الفنون مدرسة شعرية مختلفة. أي إنه ينتسب لمدرسة (الشعر) فحسب بمعناه الأشمل والأعم. وهذا كل ما يعنينا – نحن كقراء ومتذوقين للشعر – بغض النظر تماماً عن تلك التصنيفات (المقولبة) وبعيداً عن سطوة المصطلحات العلمية، أو تلك التسميات التي تعارف عليها كثير من النقاد وفق منهجية محددة و(منمذجة) على نحو معين. لقد تنوعت الأغراض الشعرية التي طرقها العواجي في ديوانه بين الوصف والغزل والغنائيات أو الوجدانيات، والوطنيات، والرثاء والإخوانيات وغيرها، وتنوعت بتنوعها البحور الشعرية وموسيقاها، كما تنوعت أيضاً تبعاً لذلك أشكال القصيدة لديه بين الشكلين الأساسيين للقصيدة العربية (الشكل التقليدي العمودي) و(الشكل التفعيلي) أو الحديث بشكل تلقائي دون مفاضلة بين هذين الشكلين، ودون أن يكون استخدامه لأحد الشكلين على حساب الآخر. ففي قصيدة عمودية بعنوان (الوطن) على سبيل المثال يأتي قوله: أيُّ أرضٍ سواك تجمعُ طُهرا وحصوناً من الإبا والتصدي أيُّ أرض سواك ترنو إليها أوجُهُ الأرض كُلها، أيُّ مجدِ كُلَّ يومٍ بظل عزك عيدٌ وبناءٌ يزيدُ فينا التحدي وفي قصيدته التفعيلية المعنونة ب (وحدة العشق) يظهر لنا اتحاد العشق مع تضاريس الوطن باتساع رقعته الجغرافية، بشكل ينبذ الإقليمية والمناطقية ليؤكد لنا أن الحب للوطن وأرضه وأهله أينما كان موقعهم من خارطته: وأعطش من سموم الوجد / أحسبني كمن يشرب / وأرسم فوق /نبض العُمر / حباً بعده أقرب وإن ناديت/ همس الأرض/ هلل صوتها/ يطرب/ وإن ناجيتها/ همساً/ تغنى موطني الأرحب شمالي وغربي/ جنوبي/ وشرقيٌ/ من الوسطى/ إلى يثرب ( ) وفي (الوجدانيات) يبدو الشاعر في قصيدة (ذكرى) كعاشق عذري متيم أمضه الوجد وأعياه بفراق من يحب، حتى نفث عشقه في كل ما حوله من الكائنات شعرا يفيض عذوبة وسلاسة، ليكتشف في وجودها ومناجاته لها العزاء في طمأنينته، وأمله في أن من يحبه حاضر في كل شيء يراه من حوله مهما شط به النوى وسبل الحياة. فهو إذن عاشق وفي لكل من أحبهم، ولا يعرف الإحباط واليأس لنفسه طريقاً: يا زمان العشق ما زال الهوى يرضعُ الوصل على درب الغد يرقب الفجر شغوفاً حالماً يرسم القبلة في الصبح الندي يستغيث الغيم في آفاقها علّها تسقي حقول الموعد فيفوح الشيحُ من أنفاسها عبقاً يذكي نسيم المولد يستثير النجم في أبراجها علّها تأتي كوجه الفرقدِ فيفيق الليل من إغفائه ويزيل الوجد تيه المرقدِ إن هذه القصيدة – بالفعل – لم تكن إلا ضرباً من ضروب (رومانسية) الشعر العربي في عصوره المتأخرة ومن (عذرية) عروة بن حزام وابن الملوح وابن ذريح في قرونهم الأولى!! وتتجلى لنا إنسانية العواجي في أبهى حللها في نفوسنا حين نقرأ قصيدته في ذكرى والدته – رحمها الله تعالى – التي لم تكن إلا دليلاً واضحاً على بره بوالديه وإحسانه إليهما. ومن تلك القصيدة التي عنونها ب (أمي) يقول: إيه أُمي وفي رضاك جنان لا يقينٌ لدي بعد الأفول كيف أنعاك يا ربيع زماني جف شعري وجف نبع حقولي كنت أمي ومهجتي وظلالي كنت أصلي وحبوتي وكهولي روضة الطهر كم تعلمت فيها كيف أسمو على غناء فصولي خيمةٌ تبعث الأمان بروحي تزرع الدفء في شتاء رحيلي( ) وتتواصل شاعرية العواجي مع مجتمعه وأبنائه ليحتوي نجاحاتهم وأفراحهم ويحتفي بها ويحترمها ويقدرها ويشيد بها، ويتفاعل معها، وكأن نجاح هؤلاء وسعادتهم جميعاً هو جزء لا يتجزأ من نجاحه و سعادته هو شخصياً. ومن ذلك على سبيل المثال قصيدته في تأبين الشيخ حمد الجاسر كرمز من رموز الثقافة والعلم والمعرفة في بلادنا، وقصيدة أخرى له في إحياء ذكرى الشاعر/ محمد عمر توفيق – رحمهما الله جميعاً – وقصيدة ثالثة في الإشادة بمجهودات الشيخ/ عبدالمقصود خوجة، ودوره البارز في إثراء المشهد الثقافي والعلمي والأدبي لدينا في المملكة وغيرهم. ومن قصيدته في (الجاسر) يقول: المحتفي نحن والتكريمُ صارَ لنا يا رائد الحرف فيك الحرفُ يبتهل يا سيد الكلم الموشوم في أفقٍ يمتدُّ في رحم الأزمان يشتعلُ أبحرت تبحث في المفقود من درر رغم الصعاب أباك العجز والملل ليس هذا فحسب – بل إن العواجي – كشاعر – قد امتد همه الشعري أيضاً بمساحة امتداد رقعة العالمين العربي والإسلامي، فعبر لنا من خلال شعره عن قضايا عربية وإسلامية طالما شغلت شعوب هذه البلدان واستأثرت باهتماماتهم حتى بكى وتألم للمنكوبين والمحزونين وللقتلى الأبرياء وأولئك المبعدين عن ديارهم، وواساهم بمُصابهم كما لو كان واحداً منهم. ومن ذلك قصيدته في (القدس) التي جاءت تحت عنوان (لحظة انكسار) إذ جاء من ضمنها قوله: أبكيك يا قدسُ أم أبكي على العرب/ أحفاد من صنعوا التاريخ والقيما تضاءلت في خفايا النفس ملحمةٌ/ كانت تدغدغ في الحس والحُلُما معنى هذا كله - باختصار - أن إبراهيم العواجي هو (شاعر الحياة) الذي لم يعش لحظة واحدة بمعزل عما يدور حوله وما يجول في ذهنه، ويختلج في صدره أو يعتمل في نفسه، ولم يكن شعره إلا سجلاً حافلاً وغنياً بجوانب مضيئة من حياتنا، وسيبقى شاهداً حياً على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا كلما قرأناه أو سمعناه، وكلما اشتاقت مشاعرنا لعناق الشعر بمعناه الحقيقي والإنساني.