قلنا، في مقالٍ سابق، إن العنف ملازم للدولة وليس مضافًا سياسيًا إلى كيانها، وإن ذلك يقوم منها ومن نظام اشتغالها مقام الضرورة والاقتضاء؛ وقلنا إن لزومه للدولة ليس مدعاةً إلى الاعتقاد أن الدولة -بطبيعتها- تسلطية أو قمعية؛ وعلينا أن نبيّن، الآن، مسألتين على صلةٍ بالموضوع -موضوع العنف- هما: المعنى المقصود من القول إن عنف الدولة عنف مشروع وشرعي، والحالة التي يخرُج فيها هذا العنف عن حدّ المشروعية فيصبح قهرًا وطغيانًا وقمعًا؛ لأن الخلط بين الأمرين -وهو السائد في النظر إلى الدولة- يمنعنا من تكوين فكرة صحيحة عن أدوار الدولة وواجباتها، أو عمّا يلابس تلك الأدوار -في فترات معينة- من شوائب تخدش في شرعيتها وتُجَافي ماهيتَها. لا يمنحُ عنفَ الدولة مشروعيتَه إلاّ وظائفه الأمنية (حفظ الأمن الاجتماعي، حماية السيادة) واقترانه بالقانون. وهو، بهذا المعنى، عنفٌ قانوني يجيزهُ القانون بما هو -في منطق الدولة الحديثة- تعبير عن الإرادة العامة. حين تمارس الدولة العنف لردع المخالفات والجرائم، وحماية أمن المواطنين وممتلكاتِهم وحقوقَهم، وحماية الوطن من العدوان الخارجي، تفعل ذلك باسم المجتمع ونيابةً عنه لأنه لا يَسَعُ المجموعَ الاجتماعيَّ كلَّه أن يقوم بأداء هذا الدور: دور الردع والحماية، فلا يكون منه سوى أنه يَكِلُ إلى الدولة دور القيام به. ثمة تفويض جماعي للدولة بالنهوض بهذا العبء يشبه التفويض بتمثيل السيادة أو بإدارة السلطة أو بممارسة السلطة القضائية. ولا يُحاسَب من يديرون الدولةَ، ويمارسون العنف المشروع نيابةً عن المجتمع، إلاّ حين يقصّرون في أداء هذا الدور، فيتخاذلون في ردع ظواهر الانفلات والتعديات، وفي حماية الوطن من الاحتلال والعدوان الخارجي، أو في الحالة التي يفيض فيها ذلك العنف عن حدّه القانوني، فيصير عدوانًا على الحقوق والحريات، أي انتهاكًا للقانون نفسه. ولأنّ العنف المشروع هو، حصرًا، العنف القانوني أو العنف المقترن بالقانون (القائم على أساسٍ قانوني، أو المصروف لتطبيق القانون وحمايته من الانتهاك)، فإن الدولة وحدها تملك -حصريًا- أن تحتكره وتمارسه، لأنها وحدها الجهة المخوَّلة تطبيقَ القانون وحمايته. أيُّ عنفٍ آخر غيرُ عنف الدولة هو، في منطق الدولة الحديثة، عنفٌ غيرُ مشروع لأن القانون لا يبرّره، أولاً، ولأن استخدامه ليس مرتبطًا بتطبيق القانون ثانيًا. وهو ليس فقط غير مشروع لأن القانون لا يبرّره، ولكنه كذلك -أي غير مشروع- لأنه، حكمًا، انتهاكٌ للقانون واعتداءٌ (فردي أو فئوي) على حقٍّ عام وعلى الإرادة العامة التي تتجسّد في القانون. الدولة تحتكر العنف -بل عليها أن تحتكر العنف كما يقول ماكس فيبر- لأنها، ببساطة شديدة، تحتكر القانون أو تحتكر تطبيقه ولا أحد ينازعها احتكاره وإلاّ اختلّ النظام الاجتماعي، ونِيل من سلطان الدولة أو من ولايتها العامة. اقترانُ العنف بالقانون يتولَّد منه معنًى خاصٌّ لاحتكار الدولة له، وتتحدَّد حدودُهُ ونطاقاتُه؛ إذا كان احتكارُ الدولةِ العنفَ يتجسّد في حيازتها الحصرية لأدواته، وفي انفرادها من دون غيرها من هيئات اجتماعية بتطبيقه قانونيًا، فهو ليس يعني -في المقابل- احتكارها تفسيره. تفرز الدولةُ والمجتمع هيئات ومؤسسات تشترك، وتشارك السلطة، في تفسيره. حتى أحكام القضاء نفسه -وهو الجهة الدستورية المخوَّلة بالبت في تضارب التفسيرات والتكييفات الفقهية القانونية- تخضع بدورها للنظر ثانيًا وثالثًا قبل أن يَقِرّ أمرُها على وجْهٍ نهائي. ومعنى ذلك أن هذا العنف القانوني المشروع يحيط حقوق مَن وقع عليهم بالضمانات القانونية التي ترعاها وتحميها من أيّ شطط؛ فأن تحتكر الدولةُ العنفَ والقانون لا يستقيم من دون أن تجعل من القانون سلطة عليا على مَن يطبقه. القانون وُضِع ليجسّد إرادة الأمّة، ولكن ماذا لو أسيءَ تطبيقُه؟ ينبغي، إذن، أن لا تكون سلطة تفسيره في أيدي الهيئة التي تشرف على تطبيقه. ماذا يعني استقلال القضاء في فلسفة الدولة، وماذا تعني المحاكمة العادلة المشمولة بضمانات الدفاع، غير تجريد مَن يطبقون القانون من سلطة احتكار تفسيره؟ وهذا تجريد ضروري لئلاّ يُصار إلى العبث بالقانون باسم القانون!. ومن النافل القول إن العنف عقاب يطال مَن يقع عليه، لكنه -هو أيضًا- عقاب مشروع لأنه قانوني، ولأنه يردع مخالفات تنتهك الحقوق العامة وتخرق الإرادة العامة. لكن العقوبات، في النظام القانوني للدولة الحديثة، لا تحمي حقًا عامًا بالعدوان على حقوق مَن تَقع عليه؛ فهي تَلحظ تلك الحقوق وتحيطها بالحماية، لأن الهدف من العقوبة ليس الثأر أو القصاص، وإنما حماية القانون الذي ينبغي أن تمتد رعايتُه إلى مَن تقع عليهم العقوبة أنفسهم. هذا ما يفسّر لماذا تخضع السجون لمراقبة هيئات عامّة ومستقلة (من المجتمع المدني)؛ فالهدف الاطمئنان إلى أن نظامها خاضع لمقتضيات القانون، وأن حقوق نزلائها مأمونة، وأن الحجز القانوني المؤقت والموقوت لحرياتهم لا يذهب إلى الاعتداء على حقوق أخرى لهم لم يُسقطها القضاء عنهم. وكما يقرر القانون العقوبات، وتصبح نافذة بأحكام القضاء، يقرر خفضها عند الضرورة، وأحيانًا، إسقاطها. إن سلطة العفو، التي يملكها الملك أو رئيس الدولة أو البرلمان، هي سلطة تعود إلى الأمّة نفسها -في فلسفة الدولة الحديثة- لكن هذه تفوِّضها إلى من يقوم بها نيابةً عنها بوصفه رمزًا للسيادة أو ممثلاً لإرادة الشعب. * كيف يكون العنف غير مشروع؟ هل حين لا يرتبط بالدولة؟ حين لا تكون الدولة هي الجهة الوحيدة الحصرية المخوَّلة بحيازة أدواته واحتكار ممارسته؟. ذلك صحيح، ولكن ليس على وجه الحصر؛ فقد يكون عنف الدولة نفسُه -والأدق العنف الذي تمارسه السلطة القائمة باسم الدولة- عنفًا غير مشروع. ينبغي التمييز، إذن، بين ضَربين من العنف غير مشروعيْن يصدران من خارج الدولة ومن داخلها، والانصراف عن الاعتقاد أن مشروعية العنف متأتاةٌ -حصرًا- من الجهة التي منها يصدر (=الدولة): على نحو ما يفهم ذلك كثيرون من أطروحة ماكس فيبر في المسألة. لسنا في حاجة إلى كبيرِ شرحٍ لبيان أن العنف غير المشروع، وغير الشرعي، هو ذلك الذي تأتيه فئةٌ أو جماعة اجتماعية من تلقاء نفسها، ومن خارج نطاق الدولة. إنه العنف الأهلي، أو عنف الأفراد والجماعات الأهلية التي تتصرف وكأنها ذات سلطة ذاتية غير محكومة بأي سلطة عليا. ومأتى عدم مشروعية هذا العنف، وعدم شرعيته، من أن الجماعة التي تقوم به إنما تعتدي على حقّ عام يعود إلى الأمّة برمّتها (هذه التي تَكِل أمْرَ تطبيقه إلى الدولة)، وتقيم -بين ظهراني هذه الأمّة- سلطة رديفًا أو موازية لسلطة الدولة. تكون الجماعة هذه، بالمعنى هذا، جماعةً منشقة عن الجماعة العليا (=الأمّة) ما دامت تصطنع لنفسها تشريعاتها المدنية الخاصة التي لا تعترف لها بها الدولةُ/الأمّة، فتهدّد بها الأمن والسّلم الاجتماعيين. ومشكلة هذا العنف الأهلي أنه يقع على جماعات أهلية أخرى أو على الدولة، أو عليهما معًا، فتكون النتيجة الناجمةُ منه أنه يستثير نقيضه فيدفع إلى عنفٍ مضاد، دفاعي، لتتولّد من ذينك العنفين المتبادَليْن فتنٌ وحروب أهلية، غالبًا ما تتسع نطاقاتُها حين تضعُف سلطةُ الدولة ويدب إليها الوهن، وتفقد قدرتها على بسط سلطانها على الاجتماع الوطني. وعلى المرء أن يتخيل معنى أن تحتاز كل جماعةٍ أو فئة سلاحها الخاص، وأن تحتفظ لنفسها بالحق في استخدامه ضدّ غيرها في المنازعات التي تقوم بينها: على السلطة أو على الملْكية أو على ما تعتبرُه أيٌّ منها حقوقًا خاصة! لا شك في أن المعنى الوحيد لذلك، والمآل الوحيد الذي إليه يصير، هو زوال الاجتماع الوطني وتمزيق كيان الدولة الجامعة وتفتيته إلى دويلات طحلبية تقوم على حدود العصبيات التقليدية الصغرى!. تصبح الدولة، في مثل هذه الحال، مطلبًا جماعيًّا لا غنى عن سلطانه الجامع لكفّ أذى السلطات الأهلية، الفئوية والعصبوية، المتغولة ومدافَعة عدوانها. إن شرعية احتكار الدولة للعنف متأتاة، بالذات، من هذه الحاجة إلى وقف «حرب الجميع على الجميع»، كما يسميها توماس هوبس، وحماية السّلم الاجتماعية بما هي قانون مدني لا غنًى عنه لقيام اجتماعٍ وطني، بل لقيام اجتماع إنساني. لذلك على الدولة أن لا تتهاون أمام أيّ مظهرٍ من مظاهر الخروج عن سلطانها -وعن سلطان الشعب والأمّة- من طريق حيازة جماعةٍ ما السلاحَ، أو ممارسة سلطةٍ ذاتية في منطقة من المناطق الخاضعة لسيادة الدولة، لأن في مثل ذلك التهاون شرعنةً لأمرٍ واقعٍ قهريّ مجافٍ لمنطق الدولة ومصالح المجتمع. وممارستُها العنف (الشرعي) لكبح جِماح مثل ذلك الخروج -حمايةً للأمن والسِّلم والوحدة الوطنية- ليس أمرًا مشروعًا فحسب، بل هو مطلوب ومرغوب لأنه من أوجب الواجبات على الدولة في منظور الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، والفقه الدستوري الحديث، بل في منظور المجتمع الذي يدفع من أمنه واستقراره ووحدته الأكلاف الغالية لقاء مغامرات السلاح الأهليّ وعنفه اللاّشرعي. غير أن احتكار الدولة للعنف لا ينبغي أن يكون مبرّرًا، لدى أيّ سلطة حكومية، لإخراجه عن حدّه القانوني الشرعي -المعتَرف به من قِبل الأمّة- واستخدام أدوات عنف الدولة استخدامًا غير مشروع. ونحن نعني بالاستخدام غير المشروع صرف العنف لأغراضٍ لا تتعلق بخدمة المصلحة العامة؛ مصلحة الشعب والأمّة والوطن والدولة، وإنما لخدمة مصلحة فئة بعينها تنتمي إليها الطبقة السياسية الحاكمة. ومن ذلك، مثلاً، استخدامُ العنف ضد المواطنين العزل، أو المعارضين السلميين، أو المطالبين بحقوق اجتماعية وسياسية مشروعة يُقِرها القانون! هذا من جنس العنف غير الشرعي لأنه العنف الذي لا يقترن بالقانون، بل هو ينتهك القانون: حيث يحوّله من تعبير عن الإرادة العامّة للأمّة إلى مجرّد تعبير عن إرادة فئة صغيرةٍ فيها هي الفئة الحاكمة؛ وفي ذلك تزويرٌ فاضحٌ لمعنى القانون وحاكميته للدولة!. ما أغنانا عن القول إن مثل هذا العنف هو مما ينتمي إلى العنف الفئوي، وهو رديفُ عنف الجماعات الأهلية والعصبوية في مجافاته للعنف الشرعي المقترن بالقانون. الفارق الوحيد بينهما أن العنف الأهلي العصبوي يُمارَس من خارج نطاق الدولة فيما يُمارَس الثاني من داخل إطار الدولة وباسمها، متوسِّلاً أدواتها وأجهزتها، ومؤوّلاً قوانينها على النحو الذي يُشرعِن ممارستَه! ومشكلة هذا العنف الرسمي، الذي يتخذ صورةَ قمِعٍ وقهرٍ واضطهاد واعتساف، في أنه إذْ يُمارَس على المجتمع على نحوٍ أعمى، يبرِّر لجماعات أهلية عديدة أخرى الردّ عليه بعنفٍ مضادّ، ويؤسّس لعنفها مسوّغاته حتى وإن لم تكن شرعية. هذا ما حَمَل فلاسفة ومفكرين كثرا على اعتبار الاستبداد وجهًا آخر للفتنة والحرب الأهلية لأنه يُواطئ قُواها في الفكرة والأسلوب. وإذا كان أرسطو قد وصف نظام الحكم الذي يحيد عن القوانين بالطغيان، فقد صَدَق ابن خلدون في تقديره الاستبداد بما هو «مُؤْذِن بخراب العمران».