منذ أرسى ميكيافيلي أسس الفكر السياسي الحديث، حصل الانفصال البائن بين السياسة والأخلاق – وبين السياسة والدين استطرادًا - وباتتِ السياسةُ تشتقُّ شرعيتها من نفسها؛ من الحاجة الموضوعية إليها، ومن وظيفتها في التنظيم الاجتماعي، لا من مبدإ أعلى خارجٍ عنها: على نحو ما كان عليه أمرُها في دول القرون الوسطى. قطع ميكيافيلي، قطيعةً حاسمة، مع التقليد الفكري السياسي القديم، المنحدر من الثقافتين اليونانية والمسيحية الوسطى، لأن اللحظة التاريخية التي عاش فيها (=القرن السادس عشر) كانت، هي نفسها، ترهص بتباشير القطيعة مع عهد الدويلات القائمة على شرعيات تقليدية، ومع عهد هيمنة الكنيسة على الدولة، وتفتح أفقًا لإعادة تأسيس السياسة والدولة على مبادئ وقواعد جديدة. انفصال السياسة عن الأخلاق لا يَعني أن السياسة توقفت عن أن تكون فعلاً بلا أخلاق، وإنما يعني أنها أنتجت أخلاقها الخاصة بها. والأخلاق هذه هي أخلاق المنفعة؛ ومقتضاها أن السياسة والدولة لا يحرّك فعلهما مبدأ آخر غير مبدأ المصلحة التي يمكن تحقيقها من وراء موقفٍ أو حربٍ أو اتفاق أو معاهدة أو ما شابه. في سبيل تحصيل هذه - وهي الغاية الأسمى للسياسة - لا يُلْتَفَت إلى الوسائل من زاوية ما إذا كانت أخلاقية، بالمعنى التقليدي للأخلاق، أو غير أخلاقية، لأن الأخلاق الحاكمة للسياسة هي أخلاق المنفعة، ولأن بلوغ الأهداف العليا للسياسة (= تحقيق المصالح) يبرّر توسُّل الوسائل كافة، حتى المنظور إليها بوصفها عارية من القيم والمبادئ. منذ ذلك الحين، وخاصة منذ الثورة الفرنسية قبل نيّف وقرنين، أصبحت البراغماتية هي الدين الرسمي للدولة الحديثة في الغرب، وتحوّلت المصلحة إلى مقدّسٍ سياسي وحيد تناضل عنه الدولة بجيشها، وشعبها، وجهازها السياسي والديبلوماسي، وما عاد ثمة من رادع يردعها عن طلب المصالح وإن من طريق إبادة غيرها! ماذا نسمي الاستعمار والحروب الاستعمارية كعدوانٍ سافر على الشعوب غيرِ الأوروبية غير هذا؟ وماذا نسمي الحروب بين الدول الاستعمارية على الظفر بمستعمرات - كالقتال الشرس بين الوحوش الضواري على الفريسة - غير هذا؟. ثم كان لا بدّ، عند لحظةٍ من انفلات المصالح من عِقالها، وتضارُبها واصطدام بعضها بالبعض اصطدامًا مسلحًا وإفنائيًا، كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، من وضع ضوابط للمنازعة على المصالح بين الدول لئلاّ تنفجر التناقضات بينها من جديد. هكذا وُلِد "النظام الدولي" و"القانون الدولي" ولادتيْن في صيغتين منه معاصرتين ومُمَأْسَسَتيْن: عصبة الأمم، ومنظمة الأممالمتحدة. ومثلما قامت الدولة الحديثة على القانون والدستور (جوهر فلسفة مونتسكيو)، وعلى العقد الاجتماعي (فلسفة جان جاك روسو)، من أجل إنهاء حالة "حرب الجميع على الجميع" (التي وصفها توماس هوبس)، وإقامة "حكمٍ مدني" (على نحو ما نظَّر له جون لوك)، ليجد تطبيقه في الدستور الأمريكي ومبادئ الثورة الفرنسية...، فلقد أعيد تطبيق النموذج إياهُ مكبَّرًا على الصعيد العالمي، فوقعتِ المواطأة على إقامة تنظيمٍ قانونيّ عالمي يُنهي حال "حرب الجميع على الجميع"، ويُرسي دعائم القانون والعَقد الجماعي على الصعيد الكوني، ويؤسّس لذلك المؤسسات ويفصل بين سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وكما أن الدستور والعقد الاجتماعي والديمقرطية لم يُلْغِ أيٌّ منها الصراع الاجتماعي، الدائرة رحاهُ بين الطبقات والفئات في المجتمعات الحديثة، وإنما نَظَّمه ورسم له الحدود القانونية المشروعة، فكذلك كانت حال "القانون الدولي" مع صراعات الأمم والدول - وهي تبلغ أحيانًا حدّ الحرب - وما يترتب عنها من آثار؛ فهو لم يُنْهِ تلك الصراعات - بما فيها الحروب - وإنما نظَّمها ورسَمَ لها الأطر القانونية، حتى أن "اتفاقية جنيف"، مثلاً، وُضِعَت لتنظيم قواعد الحرب، وتحديد مَوَاطن الإباحة والمَنْع فيها. لقد قضتِ المصلحة، وهي اسمٌ عامّ محايد لمصالح متضاربة، بإنتاج روادعَ قانونية لحمايتها من غائلة من يهدرها، هي نفسها، باسم المصلحة لأنها تتنزل في الدولة والسياسة الحديثتين بمنزلة المقدس السياسي الذي لا يقبل الانتهاك. من نافلة القول إن هذا التنظيم الدولي للمصالح إنما وَضعه مَن هُم في مواقع السلطة والنفوذ في العالم؛ من يملكون الثروة والقوة المسلّحة والقرار السياسي. كان ذلك في زمن "عصبة الأمم"، وما زال أمرُه كذلك في عهد الأممالمتحدة في الحقبتين المتعاقبتين منه: حقبة الحرب الباردة، وحقبة ما بعد الحرب الباردة. وما كان يُهِمّ المنتصرين في الحروب أن يحفظوا غير مصالحهم هُم من دون سواهم. لذلك أتى "القانون الدولي" يَلْحظ تلك المصالح حصرًا، ولم يأبه بغيرها ولا استدمجه في منظومة الحقوق المشروعة! وهكذا كان من حقوق المستعمرين "الدفاع المشروع" عن أمن جنودهم ومستوطنيهم في المستعمرات، ولم يكن من حقوق الشعوب المستعمرة النضال المسلح من أجل تحرير أوطانها المحتلة (= وينطبق ذلك على الدولة الصهيونية منذ قيامها قبل ثلثيْ قرن). أمّا النصّ على حقوق الشعوب في " استخدام الوسائل كافة" لنيل استقلالها فعبارة عامّة فضفاضة وحمَّالة أوْجُه، وهي - في الأحوال جميعها - تصطدم بفيتو التأويل في مجلس الأمن، ولم يحصل أن وُضع تطبيقُها على حالةٍ ما تحت الفصل السابع ذي الطبيعة الإلزامية، لِيُتْرَك أمرُ الاحتفال بها وترديدها لدول العالم الثالث في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أو بياناتها غيرِ الملزِمة!. ولقد كان من حقوق المستعمرين والأقوياء، وما زال، أن يمتلكوا القنابل النووية وأسلحة الدمار الشامل، وأن يقتنوا من بعضهم أشدّ الأسلحة فتكًا من دون شروط سياسية، فيما لا يدخل ذلك - في عقيدتهم - ضمن حقوق دول الجنوب! فهذه أحيطت حيازتُها للقدرة الاستراتيجية الدفاعية بالمنع والمراقبة الشامليْن، وكل مَن حاول منها أن يظفر بأسباب تلك القدرة تعرَّض للعقاب: بالحصار وبتدمير ما بَنَى من قوة! وتمتد حقوقُهم إلى الحقّ في شنّ الحروب على غيرهم من البلدان الصغيرة، وهي "حروب عادلة" في عُرْفهم؛ سواء خيضت من أجل إسقاط نظامٍ غيرِ مَرْضيٍّ عنه، أو تجريد بلدٍ من "أسلحة الدمار الشامل"، أو فرض "الديمقراطية" بواسطة "ديبلوماسية البوارج والطائرات"! فيما ليس من حقوق أهل الجنوب أن يحاربوا دفاعًا عن استقلال أوطانهم وأمنها في مواجهة الأخطار الخارجية!. ليس من شكّ في أن لسان المصلحة/المنفعة هو الذي يتحدث في كل هذه الوقائع التي تجري على مسرح العلاقات الدولية، لأن المصلحة هي عقيدة السياسة والدولة في العالم الحديث والمعاصر؛ وليس من شك في أن الذين يحتجون على سياسات القوى العظمى والدول الكبرى، ويرون فيها الشرّ المستطير والنفاق والظلم، ما زالوا متمسكين بنظرةٍ إلى السياسة تُمَاهي بينَها والأخلاق، ويتناسون أن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية، أو هيْآت للدفاع عن حقوق الإنسان. العالم اليوم يتكلم بلسان المصالح، والمصالح ليست ماهيات أو جواهر قابلة للتعريف الجامع المانع، بحيث يشترك الجميع في معرفة معناها الواحد، وإنما المصالح حمَّالة معانٍ، والأقوياء هُمْ من يحددون معناها، ويفرضونه على الجميع بالقوانين والقرارات والمعاهدات. المعركة هنا إذن: على حلبة تأويل مفهوم المصلحة، لا على المصلحة في حدّ ذاتها. مَن يتهم الغرب بأن سياسته قائمة على المصالح لا على المبادئ، ينسى أنه يصفه بما توصَف به السياسةُ والدولة الحديثة. إن كان من تهمةٍ مشروعة، فهي أنه لا يتمسك بنظرةٍ عادلة إلى المصالح، ويتخذ من المصلحة ستارًا للاحتكار ونفي حقوق الآخرين، وبالتالي فهو ينسف معنى المصلحة نفسه!.