يحدث أن ترغم نفسك أحياناً على إتمام قراءة كتاب ما، وما ان تنتهي من قراءته حتى تقول له في سرك: « هذا فراق بيني وبينك»، ثم تضعه في ركن مهمل من مكتبتك، أو تستغني عنه وتتخلص منه حين تسنح لك الفرصة لفعل ذلك. ويحدث أحيانا أقل بكثير أن يقع بين يديك كتاب فتغمرك البهجة وترتقي في مراتب اللذة كلما التهمت المزيد من سطوره وصفحاته، فتتمنى في دخيلة نفسك ألا ينتهي وألا تبلغ خاتمته. من بين الكتب التي تنتمي للفئة الثانية والنادرة يأتي كتاب «40.. في معنى أن أكبر» للروائية والكاتبة المبدعة ليلى الجهني، والذي اقتنصته مؤخراً من مكتبة أحد الأصدقاء. حجم الكتاب النحيل «62 صفحة» لا يعكس مدى ثقل التجربة الإنسانية والوجودية التي يكتنز بها «ولكن منذ متى كان حجم الكتاب مقياساً للحكم على جودته؟». والوعي الذي يحيل الحياة إلى جحيم لا تستطيع ولا تريد الفرار منه، والزمن الذي يكيل ضرباته دون أن يكون باستطاعتها درء ضرباته عنها. تكتب بصراحة بالغة عن «فردوس الأمومة الهش» تقف الكاتبة على أعتاب الأربعين فتقرر أن تكتب شيئاً ما عن هذه التجربة بكل ما تحمله من المعاني، وهي ربما فعلت ذلك لتكفر عن الذنب الذي ارتكبته حينما أقدمت على تمزيق كراس مذكراتها التي كتبتها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها. تكتب ليلى فصول كتابها الثمانية والعشرين التي يبدأ كل فصل منها بعبارة «إنني أكبر»، لتجد في ذلك ذريعة، ربما، لتكتب سيرة وجودها «لا سيرة حياتها» على الأرض. تكتب تأملاتها العميقة والهادئة التي تسبر أغوار النفس وتجلي ما استغلق وغمض من مشاعرها بشفافية وصدق نادرين لا تملك إلا أن تنجرف معهما، ويغمرك فيضهما. تكتب عن الألم الذي كبرت في ظله، والوحدة التي لا ترى نفسها خارجها، والصمت الذي تصفه ب «النعمة الهائلة المسلوبة منا»، والموت الذي «لا نذهب إليه، ولا نعود منه»، والقراءة التي هي «غريزة كالجوع تماماً»، والوعي الذي يحيل الحياة إلى جحيم لا تستطيع ولا تريد الفرار منه، والزمن الذي يكيل ضرباته دون أن يكون باستطاعتها درء ضرباته عنها. تكتب بصراحة بالغة عن «فردوس الأمومة الهش» الذي لم تنعم بالدخول إليه. إنها باختصار شديد تكتب ذاتها وتسكبها حبراً يعلق أرجه طويلاً بأنامل قرائها. كتاب رائع لا تفيه هذه العجالة حقه أبداً.