الرحلة التي يقوم بها الفرد من بلد إلى بلد، أو من مدينة إلى مدينة، أو حتى من بيته إلى أقرب مكتبة داخل مدينته، من أجل البحث عن كتاب واقتنائه، هي رحلة -طالت أو قصرت- كالكتاب نفسه: رحلة جعلت من البشرية على طريق لا يحيد عنه إلاَّ هالك. كم من أمم هلكت وبادت؛ لأنها لم تعرف إلى الكتاب طريقًا، ولا من الكتابة طوقًا للنجاة.. وكم من أمم اندثرت لأنها لم ترَ للكتاب إلاَّ وجهًا واحدًا: وجها للخرافة والسحر والشعوذة والتزييف، وسك البشر كعملات فكرية موحدة. ولدت الكتابة والكتاب لتولد البشرية.. لم تكن البشرية قبلها إلاَّ قطعانًا، ولم يكن كلامهم إلاّ همهمات، ولم تكن تجاربهم إلاَّ ركامًَا يزحف على بعضه البعض، لا تراكمًا ينمو فوق بعضه البعض. من يذهب إلى الكتاب لا يذهب إلاَّ حرًّا طليقًا، وإن ذهب مكرهًا (كما التلاميذ في مدارسهم)، فإنه سيتعرف إلى جحيم الكتاب وعذابه.. كلنا تعرضنا إلى نوع من أنواع ذلك الجحيم، حين يتحوّل الكتاب إلى سجن، وحين تصبح القراءة قيدًا.. لكن الحديث هنا عن نوع آخر من الكتب: كتب تطلقك ولا تقيدك.. كتب تحاورك ولا تزجرك.. كتب تحييك ولا تميتك. هذا ما حدث بالضبط في ربيع الرياض: ذهب الناس إلى الكتاب أحرارًا، فكان لقاؤهم به عرسًا لا مأتمًا. اختارت الرياض أجمل فصولها، لتزف من خلاله القارئ إلى الكتاب. هل تقول ضمنًا: الكتاب هو أجمل فصول المعرفة البشرية؟! هو الفصل الذي لازال شبه غائب عنا، إمّا لسوء الظن، أو لقلة الإدراك، أو لضعف الرصيد الحضاري. لكنه الفصل الذي من دونه ستظل حياتنا بلا ربيع، وأشجارنا بلا ثمار، وخطواتنا بلا طريق. نعم لازال هناك الكثير من المنغصات: لا زال هناك مَن يكفر، ومَن يقصي، ومَن يحرق ناديًا أدبيًّا لمجرد أن صوتًا نسائيًّا شارك فيه من وراء حجاب، ومن لا يرى في الثقافة إلاّ رأس حربة للأعداء، أو خطرًا يتهدد الأمة.. لكن حين ترى الناس (بالملايين لا بالآلاف) يتدفقون شغفًا وحبًّا في المعرفة، فإنك لا تملك إلاّ أن تثق في المستقبل. المستقبل الذي ينمو في حضن الكتاب والمعرفة والتنوع في الأفكار، سيعلّم أبناءه كيف يحيلون تلك المنغصات إلى أرشيفنا الفلكلوري العامر بالتناقضات والغرائب، والذي لا يبدأ بتحريم الإذاعة، ولا ينتهي بتكفير مَن يرى بجواز الاختلاط.