في هذا العصر، عصر الشبكة العنكبوتية، وعصر التواصل الاجتماعي والمجتمع الافتراضي، نرى أن العالم بقدر ما اتسع ضاق. فصار البعيد منا قريباً والقريب منا بعيداً.. فمعاشرة الناس ضرورة لا بد منها، ولا بد أن يخرج من هذه المعاشرة (الصديق والعدو والمنافق والنافع والصادق والكاذب والضار)، فالحكماء قسموا هذه الفئة من البشر كالتالي: فالناس أنواع منهم من هو كالغذاء، ومنهم كالدواء تحتاج إليه بين حين وآخر، ومنهم كالألم الذي لا يجوز لك أن تخضع له وتقر به لأنه سيكون سبب هلكتك، يقول أبو حيان التوحيدي عن الصديق والصداقة: وكما أن الإنسان واحد بما هو إنسان، كذلك يصير بصدقه واحداً بما هو صديق، لأن العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تتحولان إرادة واحدة، ولا عجب فقد أشار إلى هذه الغريبة الشاعر بقوله: [روحه روحي، وروحي روحه إن يشأ شئتُ وإن شئتُ يشأ]. وسُمي الصديق صديقاً بعد ذلك لصدقه معك، والعدو عدواً لعدوه عليك لو ظفر بك، والصديق يكون واحداً وجمعاً ومذكراً ومؤنثاً. ويقول أبو حيان التوحيدي: قيل لأرسطاطليس الحكيم معلم الإسكندر مَنْ الصديق؟ قال: [إنسان هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك]. عزيزي القارئ: كان أحد أصدقائي إن لم يزرني هاتفني وكانت صداقته معي تشجعه على أن يفصح لي عن بعض متاعبه الخاصة، سواء كانت في العمل أو المنزل أو المجتمع. افتقدته زمناً فدفعني الوفاء والشوق أن أذهب إليه؛ لتفقد أحواله، ذهبت لزيارته لعلي أجده فما أن ضغطت جرس باب بيته حتى خرج لي (بثياب المنزل) وعلى وجهه سحابة حزن ظهرت من تقاطيع وجهه وفي عينيه وما حولهما على وجه الخصوص فسلمت عليه.. وأحسست من خلال تبادله معي السلام والتحية -أحسستُ- أنه لا يريد أن أدخل، لم أمتعض لهذا الحال والاستقبال، بل عرفت أنه محتاج لمن يساعده على حالته تلك. قلت وكأني في عجلة من أمري: هيا بسرعة البس ثيابك وتعال معي. لم يستفسر.. بل دخل وبعد دقائق خرج وركب معي سيارتي وذهبنا.. أول ما تحركنا لم يكن في بالي أي مكان نقصده، ولكن سرعان ما انبثقت في ذهني فكرة زيارة أحد الصالحين -ولا أزكي على الله أحدا- وفعلاً وجدناه وكأنه ينتظرنا.. لأنه دائم الجلوس في المنزل ويسرُّ بمن يزوره من مُحبيه. استقر بنا المقام فتقدم صديقي بسؤال مفاجئ لصاحب المنزل: ما رأيك في هذه الحكمة؟ [أحذر مودة ماكرٍ خلط المرارة بالحلاوة يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة]. فرد عليه شيخنا بقوله: ماذا فهمت من هذه الحكمة؟ قال صديقي: فهمت منها عدم الإكثار من الأصدقاء وواحد أو اثنين منهم يكفي، فلقد قال الشاعر: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة، فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة قال شيخنا هذه نظرة تشاؤمية محضة، هلا استمعت إلى من يقول: استكثِرنَّ من الإخوان إنهمو خير لكانزهم كنزاً من الذهب، كم من أخ لك لو نابتك نائبة وجدته لك خيراً من أخي النسب. قال صديقي يا شيخنا الفاضل كثرة الأصدقاء تكون كثرة في التبعات والمسئوليات، وقد يخونك من تنزله في نفسك منزلة الأخ الحميم، فاعتدل شيخنا في جلسته وقال بصوت وقور هنا مربط الفرس.. أنت بحاجة إلى أن تتمحص مَنْ حولك مِنْ الأصدقاء فتقرب مِنْ نفسك مَنْ تراه أهلاً لذلك. ولا تُفشِ سرك أو تطلب المشورة أو النصيحة إلا ممن تراه أهلاً لذلك ولا يغرنك المظهر ويخدعك عن الجوهر. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "عليك بإخوان الصدق. فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء"، ثم صمت قليلاً وأردف قائلاً: يا بني قد قيل أجمل ما يلذ به العاقل في هذه الدنيا مجالسة الإخوان. فهم ماء العيش [وليس كثيراً ألف خلٍ لصاحبٍ وإنَّ عدواً واحداً لكثير]