الحمد لله وحده؛ والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد : فقد سيق في المقال الأول الحديث عن أحكام ذوي الإعاقات الجسمية والسّمعية والبصرية؛ وسيخصص هذا المقال لأحكام ذوي الإعاقات العقلية. فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المعاق عقلياً سواء كان مجنوناً، أو معتوهاً، أو أبله لا يجب عليه الصّيام، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : "رفع القلم عن ثلاثة ... الحديث". ومن المسائل الفقهية المتعلّقة بأحكام الصّيام لذوي الإعاقات العقلية، ما يلي: 1 - هل يَفْسدُ الصومُ بالجنون الطّارئ؟ وصورة هذه المسألة : أن ينوي المكلف الصّيام ويشرع فيه، ثمّ يطرأ عليه الجنون فهل يفسد صيامه بهذا الجنون الطّارئ؟ قولان للفقهاء في هذه المسألة أرجحهما - والله أعلم - مذهب الشّافعية القائل ببطلان الصّيام بالجنون الطارئ خلافاً للجمهور. ومستند الشّافعية فيما ذهبوا إليه الحديث المشهور : « رفع القلم عن ثلاثة... الحديث ». ووجه استدلال الشّافعية بهذا الحديث : إنّه قد نَصَّ على أنّ المجنون قد رفع عنه التّكليف، وعليه فلا يصحّ منه الصّوم، ولا يطالب به، لزوال أهلية الأداء بالإجماع. 2- قضاء ما فات من رمضان بسبب الجنون : وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال أرجحها - والله أعلم - قول الجمهور من الشّافعية والحنابلة، وأبو ثور وزفر من الحنفية بعدم وجوب قضاء ما فات من رمضان بسبب الجنون. ومستند الجمهور فيما ذهبوا إليه الحديث السّابق: ( رفع القلم عن ثلاثة ... الحديث). ووجه استدلال الجمهور بهذا الحديث أنّه قد رفع التّكليف عن المجنون بالاتّفاق، وما لم يُكلّف به الشّخص لا يجب عليه أداؤه ولا قضاؤه؛ بدليل أنّ الصّبي لا يجب عليه قضاء ما فات باتفاق. فقياساً على الصّبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم خلال الشهر ، حيث لا يجب عليهما قضاء ما فاتهما من الشهر لعدم التكليف، كذلك لا يجب عليه قضاء ما فات بسبب الجنون. 3 - هل تسقط الكفّارة بالجنون الطّارئ ؟ وللفقهاء في هذه المسألة قولان أرجحهما - والله أعلم - قول الجمهور من المالكية والشّافعية في قول، والحنابلة، والظاهرية: إنّ الكفارة لا تسقط بالجنون الطارئ. واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأنّه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفّارة عليه؛ كما لو لم يطرأ عذر ؛ ولأنّ العذر إنما طرأ بعد وجوب الكفارة فلا يسقطها كما لو سافر بعد الجماع. 4 - هل يصحّ اعتكاف المعوّق عقلياً ؟ والفقهاء على عدم صحة اعتكاف المعاق عقلياً سواء المجنون، أو المعتوه، إذ لا نية لهما، فإن جُنَّ المعتكف ثمّ أفاق فللفقهاء قولان في حكم اعتكافه، أرجحهما - والله أعلم - قول الجمهور من الشّافعية والحنابلة، وهو : صحة اعتكافه ما دام في المسجد. وقالوا : إن لم يخرج أثناء ذلك من المسجد فاعتكافه صحيح باق لم يبطل، لأنّه معذور ، وكذلك إذا أخرجه أهله من المسجد فلا ينقطع تتابع اعتكافه لعدم اختياره في ذلك، فأشبه ما لو حُمِلَ العاقل مكرهاً. هذا ما تيسر جمعه وإيراده، والله تعالى أعلى وأعلم.