أوروبا هي الآن مجتمعات الحرية. وعبرت القارة إلى هذه المرحلة المتقدمة من الحرية، حواجز مليئة بكل ما يتخيله إنسان من العنت، والأهوال والمذابح. ودفعت ثمناً رهيباً بكل أنواع العذابات، من العلماء والفلاسفة الذين يحرقون شوياً وهم أحياء، أمام الجماهير بتهم الهرطقة ومعاداة الكنيسة، إلى آلاف النساء اللائي كن أيضاً يحرقن بتهم السحر والشعوذة. ومئات الآلاف الذين غيبتهم محاكم التفتيش بوسائلها الوحشية الفظيعة. إلى أن جاء القرن ال20 فختمت النازية الفظائع الأوروبية بتعذيب اليهود وغير المنتمين للعرق الآري، ومنهم عرب. وبالمناسبة فإن اليهود كان يسلط عليهم السوء في أوروبا طوال القرون الماضية، وتعرضوا لعذابات وحشية يندى لها جبين الإنسان، لكنهم يتمتعون ببسالة غير عادية على المواجهة، وفن البقاء. ومع الأسف فإن الصهيونية (وهي المجموعات المصلحية المسيسة التي تستغل اليهود وآلامهم لبناء أمجادها ونزواتها)، لم تتعلم من دروس التاريخ، وترتكب الآن نفس العار، ونفس العدوانية ونفس الحماقات بحق الفلسطينيين. أوروبا قطعت مشواراً جيداً نحو الحرية، ولكنها لا تزال تبتلي بغلاة ومجموعات أيديولوجية ومصلحية تجرها إلى الوراء. ويبدو أن مبادئ الحرية في أوروبا لا تزال هشة، إذ أنحنت لضغوط غلاة الليبرالية والمتطرفين المسيحيين والقوميين، الذين استغلوا الحرية لتصفية حساباتهم مع الآخر، حتى بدا الأمر وكأن الحرية رهينة للسياسيين الذين يسعون إلى مصالحهم، ولا يهمهم من يتحرر ومن يتعذب. وقاد الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي وحزبه «كتلة تجمع الحركة الشعبية» الحملة ضد المحجبات في فرنسا وأصبح الحجاب محظورا قانوناً وحكم على نساء محجبات بدفع غرامات، فقط لأنهن يمارسن حرية شخصية غير خطرة على المجتمع، في مهد أنوار الحرية وفي البلد الذي اخترع بيان حقوق الإنسان. وامتدت «الحمى» إلى المانيا وهولندا. ففي الأسبوع الماضي أيدت محكمة هولندية فصل موظفة محجبة. وقبل يومين منع طالب مسلم من أداء الصلاة في مدرسة في المانيا. وقبل هذه وتلك تتوارد حوادث التمييز الغبية، وهي في الحقيقة كره للآخر واخضاع الحرية لأمراض المتزمتين والغلاة وبائعي الضمير. وهذا يعني أن الساركوزية المقيتة تتمدد في أنحاء أوروبا وتسري عدواها في المخيخات الأوروبية، بما يشكل انتكاسة خطيرة. لأن أوروبا قارة قوية و«مسلحة» وإذا تخلت عن ضميرها، فإنها ستهدي لبني الإنسان ظلمات وفظائع، بعد أن ورطت العالم في القرن الماضي بحربين عالميتين، وبحار من الدماء. وحتى الآن لست مقتنعاً لماذا تصبح قطعة قماش ترتديها نساء معدودات على الأصابع، أو طفلات في المدارس، خطراً يهز أوروبا. ولا أعلم ما هو موقف القارة العجوز (كما يقول رامسفيلد) وفرنسا من ملابس الراهبات وقبعات السيخ وأزياء كهنة البوذية، أم أن هؤلاء لا يزورون فرنسا ولا يحق لهم دخول أراضيها. وبهذه المناسبة لا بد من الإشادة بالأحرار الفرنسيين والأوروبيين الذين عارضوا هذه «المسخرة» وعرض المنافقات. كما يجب الإشادة بالولايات المتحدةالأمريكية، حيث لا يوجد تمييز ديني، ولا ملاحقات لأطفال المدارس تمنعهم من التمتع بقناعاتهم الدينية أو تقاليدهم القومية. *وتر إذا ما الدخول المهيب، غنى.. وجاوبه حومل يطرب سقط اللوى، ببهجة الأغاني وديم الهاطلات.. ويفز امرؤ القيس، متجلداً إذ مطي الصحب وقوفاً في الوادي الخصيب.. وينشد ملء العين وبصر الدنيا. [email protected]