بداية نحن مقتنعون جميعا بأن اللغة هي أداة الشعر أو بمعنى أشمل «هي الظاهرة الأولى في كل عمل فني يستخدم الكلمة أداة للتعبير» ولا أريد أن أشرح هنا دور اللغة في بناء الحضارة أو في تقدم البشرية وغيرها، لكنني أوجز ذلك كله في مقولة هيدجر : إن اللغة لا تنحصر في كونها وسيلة للفهم، فتعريفها على هذا النحو لا يصل إلى ماهيتها الخاصة، وإنما يورد نتيجة من نتائج هذه الماهية، إذ اللغة ليست آلة يملكها الإنسان إلى جانب كثير غيرها، وإنما هي أولا وعموماً، ما يضمن إمكان الوقوف وسط موجود هو موجود منكشف، فحيث تكون لغة يكون عالم، وحيث يكون عالم يكون تاريخ، واللغة من هذه الوجهة تضمن للإنسان أن يكون على نحو تاريخي، ومن هذا نفهم دور اللغة التي يستخدمها الشعر في تفجير إبداعاته، لكن أية لغة تلك التي يستخدمها الشعر ؟ الصورة الشعرية الجديدة التي اتخذت من اللغة أداتها في التكوين والكشف التي اتسمت بالخيال كونها شاعرية وليست مجردة هي التي فجرت قضية الغموض ( وهي خاصية في «التفكير الشعري» وليس في التعبير الشعري ) أهي لغة الحوار..؟ أعتقد أن الحوار وجه واحد من وجوه استعمال اللغة وبذا يكون قاصراً على الكلام، وأقصد الحوار هنا الحوار بمعناه الضيق وليس الحوار مع العالم ومع الأشياء بلغتها التي لا ينفذ إليها ولا يقدر على استلهامها إلا الملهمون ومنهم الشعراء، لكن لغة الشعر لغة أخرى ليست هي لغة الكلام اليومي المستهلك، لكنها لغة الكشف التي تعطي للكلمات غنى جديداً أعمق من الكلام وأكثر بقاء منه، لذا أحدث الشعر انفجاراً لغوياً فسره غير العارفين (بالغموض) واتجه الكثير من العارفين إلى التصدي لهذا الغموض بالبحث والتحري عن كنهه في علوم (السيموطيقا) علم العلامات (والهرمنيوطيقا) علم التأويل، وفي العلوم الأخرى كعلم الجمال وغيرها، إذن فالصورة الشعرية الجديدة التي اتخذت من اللغة أداتها في التكوين والكشف التي اتسمت بالخيال لكونها شاعرية وليست مجردة هي التي فجرت قضية الغموض ( وهي خاصية في «التفكير الشعري» وليس في التعبير الشعري ) لان الغموض في التعبير الشعري ليس غموضاً لكنه إبهام، إذ أن الإبهام يرتبط أساسا بتركيب الجملة أي انه صفة نحوية أساسا تقوم على التعقيد في التركيب اللغوي، ولا علاقة لها بالتفكير الشعري المتسم بالخيال، وأن فهمنا تركيب اللغة فهماً جيداً يجعلنا نحل الكثير من إبهام أغلب قصائد الشعر الحديث.