يقال : إن المسافة التي تفصل بين انجليزي وآخر عندما يتحدثان وقوفا أبعد من المسافة التي تفصل بين عربي وآخر ، ولكل قاعدة استثناء، وقد لاحظ أحد أساتذتي عندما زار أوروبا أن تلك المسافة تضيق كلما اتجهنا جنوبا إلى أن نصل إلى البلدان المطلة على المتوسط، حيث يضع محدثك يده في يدك، أو فوق كتفك أثناء حديثه معك، وقد اتفق علماء النفس البيئي على أن هذه المسافات تختلف باختلاف البيئات. كما رأوا أنها تتأثر بعوامل متعددة كالعمر والجنس والمركز الاجتماعي. فالمسافة التي تفصل بين الرجل ونظيره أثناء حديثهما تختلف عن تلك التي تفصل بين الرجل والمرأة. كما أننا نسمح للصغار بالاقتراب الوثيق منا أكثر مما نسمح للبالغين، هذا عن المسافة المكانية، فماذا عن المسافة الفكرية والنفسية؟ في عصر تتطور فيه وسائل الاتصال لم تعد المسافة تقاس بالأميال، ولم تعد المسافات المكانية تشكل عائقا يحول دون التواصل بين الناس، وقد سبق لي أن أشرت مرة إلى تلك المسافة الفكرية والنفسية التي تفصل بين شخصين لا يجدان لغة للتواصل، أي حين يتعطل الكلام، ويرحل كل إلى داخله، لأن بين تفكيرهما ومنطقهما مسافة لا يقطعها إلا الصمت. وكلما طال بي المكوث في صالون حلاقة أو عيادة طبية، وسمعت كيف يتواصل الناس في غرفة الانتظار مع بعضهم، وكيف يتبادلون أحاديثَ في غاية البساطة والعفوية، تذكرتُ (جيرولامو) بطل إحدى قصص (ألبرتومورافيا). في الأسبوع الفائت كنت في عيادة لطب الأسنان فتذكرته مرة أخرى. كان أحدهم يقص على المراجعين كيف نشب قرص دواء كبير الحجم في حلقه. استغرق حديثه عن تلك الحادثة وقتا طويلا، وقد اقترح أن تقوم شركة الأدوية المصنعة بإنتاج أقراص أصغر، ومن ثم يتناول المريض قرصين أو ثلاثة بدلا من قرص واحد بذلك الحجم، ثم توالت بعد ذلك تعليقات الآخرين على تلك الحادثة، ولم تتوقف إلا حين غادر صاحبنا غرفة الانتظار ، لتبدأ حكايات أخرى. وبخلاف عفوية وبساطة ذلك التواصل، كان جيرولامو يعاني عدم قدرته على تقليص تلك المسافة النفسية القائمة بينه وبين غيره، لهذا فهو يشبّه نفسه بجبل ثلجي عائم يطفو على سطح البحر فلا تظهر منه إلا قمته. أما الجزء الأكبر والأهم فهو مغمور بالماء مجهول لا تقع عليه العين. مع ذلك تبدو مشكلة (جيرولامو) بسيطة قياسا بغيرها، فهناك مسافات أخرى أكثر حزنا تفصل بين الأفراد والجماعات هي تلك المسافات النفسية الناتجة عن التحامل والتزمت والانغلاق، ولا علاج لها إلا الحب. الحب وحده قادر على قهر تلك المسافات. ربما يتعذر علينا تحقيق ذلك المستوى من الحب الذي تحدث عنه الروائي الياباني شوساكو إندو في روايته (الصمت) عندما قال: «يمكن للحُسْنِ والبهاء أن يجتذبا الجميع، لكن أيمكن أن يُدعى ذلك حبا ؟ إن الحب الحق هو تَقَبُّل الإنسانية حتى حين تكون مُهدرةً كالخرق والهلاهيل».. أي حتى في حالات ضعفها وظلامها، لكن ذلك المستوى من الحب نادر الوجود، وإذا رأيتَ المسافةَ بين البشر تنمو فذلك لأن اتجاه الخطى إلى الوراء ! [email protected]