«خرَج من جَهَنَّم، ليُذيقَ شَعبه طَعمَ الجَحِيم».. تِلك هي باختصار سيرَة العَقيد مُعمَّر القَذَّافي، الذي وُلِد في قرية «جَهَنَّم» القريبة من مدينة سرْت المتوسِّطيّة، المتوسِّطَة موقِعاً بين مدينتيّ طرابلس وبِنغازي. استَمْرأ العَقيدُ تعْقيدَ الأمور في بلده وإبادة شعبه، واستمر في طغيانه، وواصل معاركه الخاسرة، وإحراق ليبيا بمن فيها، إلى أن كان أول المُحْترقين في أتُون ثَوْرَة حقيقية ليست كثوْرَاته وعَنْتَرياته، ليعيد اختصارَ سيرته، المُختَصَرَة أساساً، لتُصبح: «خرج من جَهَنَّم إلى الجَحِيم». وصف القَذَّافي نفسه بأنه الثَوْرَة والمجد والتاريخ وملك الملوك، تلك الوصوف ما هي إلا بَصِيصٌ من تجلِّيات «جنون العظمة» لديه، وشَذَرَاتٌ من النَّرْجسيّة المُفرِطة التي يعاني وطأتها منذ استلامه السُلطة قبل أكثر من أربعين قهْراً مرَّت على ليبيا، إلى لحظة سقوطه. في إحدى خُطَبه العنترية، هدَّد القَذَّافي بأن يُحوِّل ليبيا إلى نار ٍحمراء وجمْرٍ مُشتعِل. بعد ذلك بأيام، قال لصحفيّة أمريكية: «إنّ الشعب الليبي يُحبني ومستعدٌ للموت دفاعاً عنّي»! أي نرْجسيّة تلك التي أغرت «نيرون» طرابلس بحرق البلد بمن فيه ليغنّي على خرابها وحيداً، ثُمَّ تُهيئ له نَفسهُ بأن كل أفراد شعبه مستعدُّون للموت دِفاعاً عن سَواد عينيه! وهُمُ الذين لم يَسلَموا من جارح هَجَماته وكلِماته، حيث وصفهم في خطبهِ العديدة البليدة بالجرذان والكلاب الضالة والجراثيم والمجانين ومتعاطي المخدرات، وغيرها من الأوصاف السَمِجة. وكَسيرةِ أي أَفَّاكٍ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، يمتلئ كلام القَذَّافي بالتناقُض، وهو يُعدّ زعيم المُتناقضَات في عصرنا الحديث بلا مُنازع.. فقد سعى إلى تصدير الثَوْرَة ودعم حريات الشعوب ضد طُغْيان وجَبَرُوت حُكَّامهم وبدَّد مال شعبه على تلك الأوهام، وهو الذي سعى بكل قوته إلى قمع ثَوْرَة شعبه ضد طُغْيانه وجَبَرُوته. وكان يدعو دوماً إلى أن يحكمَ الشعبُ نفسه بنفسه في جماهيريته الفاضلة، وهو الدِّكتَاتُور المُسْتبدّ بكل قرارات وخيارات شعبه وموارد بلاده. وقد كان يوماً يُسمِّي نفسه عميد الحُكام العرَب، وملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين، ثم يدَّعي بعدها أن سُلطاته كقائد للثَوْرَة أدبيةٌ فقط، بل ويتمنَّى أن يكون له منصب رسمي، ليرمي ورقة الاسْتقالَة على «وجوه شعبه»، بحسب وصْفه، قبل إسقاطه.. ورغم عروبته، إلا أنه نصّبَ نفسه ملكاً على ملوك القبائل الأفريقية! وزَعم مرةً أنه إمام المسلمين أهل القرآن، وهو يدْفعُ الناس إلى تمْجيد كتابه الأخضر، بل وأنشأ مؤسسات ومنظِمات دُولية لشرْحه ونَشْر عُلومه ودراسَة إعجَازه. بدَت ليبيا بلَداً فقيراً، بلا بُنىَ تحتيّة جيِّدة، ولا مرافق حيويَّة أساسيَّة، وهي الدولة العُظمى مساحةً ومَوارد وإمكانات. من يتخيّل أن قطاع النفط والغاز، وهو عَصَب اقتصاد البلاد، غير مكتمل التطوير إلى الآن! لقد صنع القذافي من ليبيا بلداً متخلِّفاً جداً، فكانت الخدمات الصحيِّة مُتدنية، والتعليم في أسوأ حَالاته، والأميّة متفاقمَة، وصار الفقْر مُنتشراً، وإدمان المُخدِّرات مُسْتَفْحِلاً، والفَسَاد ينْخر في كل المؤسَّسات.وفي بداية ثورة شعبه عليه، دعا القَذَّافي الناس إلى الثَوْرَة حالاً ضد الُمتظاهرين والمُحتجِّين بأن قال بنبرة هسْتِيرِيَة مُتلْفزَة: «دقّت ساعة العمل.. دقّت ساعة الزحف.. دقّت ساعة الانتصار.. لا رجوع! إلى الأمام.. إلى الأمام»، ثم ما لبث أن غيَّر رأيه، بعد يومين اثنين فقط، ودعا الناس إلى «الرقص والغناء والسهر وعيْش حياة العِّز»! لقد صنَع القَذَّافي بفلسفته العَقيمة من بلده جماهيريةً عُظمى على الورق، وصنَع من نفسه أشهر زعيم مُهرِّج عرَفهُ التاريخ. ملابسه المُزركَشة والمُلوَّنة، وهيئتهُ الكُوميديّة لا تُوحي أبداً بوضع نفسيٍّ مُستَقرٍّ، وكلماتهُ التي تمتد أحياناً إلى ساعات، لا تُشير هي الأخرى إطلاقاً إلى سَلامة عقْل، ولا رَجَاحَة فِكْر، وربما لم يُخطئ كثيراً الرئيسُ الراحِل أنور السادات عندما نَعتَه ذات يوم ب«المجنون». لقد أضاع القَذَّافي حياتهُ وحياة شعبه في التبشير بخُزَعْبِلاَته التي سَطَّرها في خُلاصة أفْكاره المُسمَّاة ب«الكتاب الأخضر»، الذي يُجيَّرُ له تنويرُ عُقول البَشَريّة بأن «المرأة أنثى والرجل ذَكَر، والمرأة تَلِد والرجل لا يَلِد، والمرأة تَحيض والرجل لا يَحيض». والمصيبةُ العُظمى أن يُفرَض تدريسُ هذه التُّرّهات في المدَارس، يُردِّدها التَلامذَة بحَماسَة كل صَباح. وبسبب فلْسَفته السَّقِيمة في الحُكم وتوزيعه شُؤون إدارة وظَائف الدّولة على لِجَان ثوْريّة ومؤتمرات شعْبيّة صُوريَّة عقيمة، أضاع البِلاد والعبَاد، فأُوكِلَت الأمور إلى غير أهلِها، وتأخَّرت التنميّة، واستشرى الفساد، حتى بدَت ليبيا بلَداً فقيراً، بلا بُنىَ تحتيّة جيِّدة، ولا مرافق حيويَّة أساسيَّة، وهي الدولة العُظمى مساحةً ومَوارد وإمكانات. من يتخيّل أن قطاع النفط والغاز، وهو عَصَب اقتصاد البلاد، غير مكتمل التطوير إلى الآن! لقد صنع القذافي من ليبيا بلداً متخلِّفاً جداً، فكانت الخدمات الصحيّة مُتدنية، والتعليم في أسوأ حَالاته، والأميّة متفاقمَة، وصار الفقْر مُنتشراً، وإدمان المُخدِّرات مُسْتَفْحِلاً، والفَسَاد ينْخَر في كل المؤسَّسات. واستمر العَقيد المُعَقَّد إلى لحظة سقوطه في إبْقاء بلَده على هذا الحال المُروِّع، خشيةً من العُقول النيِّرة والأيادي الخيِّرة من الليبيين، والتي تُشكِّل بمجموعها خَطَراً على عَرشْه المُتَهالِك، وبُنيَان حُكمه المُؤسَّسِ على شَفَا جُرْفٍ هَارٍ. هنيئاً لليبيا الحبيبة استعادتها حريتها وهيبتها، وتخلّصها من عقدتها التي استمرت أكثر من40 عاماً، مع تمنياتنا القلبية لكل أحرار ليبيا بعودة الاستقرار والاطمئنان إلى أرضهم ونفوسهم، وبدء مسيرة ازدهار وطنهم في ظل حكم رشيدٍ عادل يكفل لهم التقدّم والحرية والكرامة والمساواة. [email protected]