الطغاة والطغيان أوصاف ترددت على مدار السنين، فهي ليست حديث عهد بالإنسانية، والطغيان معناه لغويا الجور والاضطهاد، وقد ذكر الطغاة والطغيان كثيرا في القرآن الكريم وحذرنا المولى عز وجل منهم، وهي ظاهرة موغلة في القِدم ظهرت جلية في بابل وأشور وفارس والصين، كما عانت منها الحضارات القديمة كالفرعونية واليونانية القديمة، وهى ظاهرة تلازمت مع الحكم الفردي المستبد الذي لا يوجد عليه رقيب أو حسيب. قد يتلازم الطغيان مع الفساد المالي وقد يبقي غريزة منفصلة يعززها حب التفوق على الآخرين والرغبة الجامحة في التحكم فيهم وفي مصائرهم، هناك الكثير من الطغاة يفضلون زوال أموالهم على زوال سلطانهم، ولعل نشوة المال وحدها لا ترضي غرورهم، وامتلاكه دون سلطة لا تشبع نرجسيتهم المتضخمة. ومن المؤكد أن الطغيان يولد في النفس كبذرة، قد تقويها الظروف وقد تقتلعها بعيدا، غير أن الحكام المستبدين تتضخم بذرة الطغيان داخلهم حتى يضحوا كيانا طاغيا، ذراعه البطش وعقله الإرهاب والتخويف وأدواته الإعلام المضلل وشعاره الكلام المعسول الأجوف وصمام أمانه استباحة نفوس المواطنين وقمع حرياتهم. ويصعد الطغاة لسدة الحكم بطرق متنوعة، غير أن أسوأ أنواع الطغاة هم من تكون نشأتهم متواضعة وظروفهم قاسية، ممن عايشوا التغييب والتهميش والنبذ والإقصاء من المجتمع، فبمجرد وصولهم لدوائر صنع القرار يبدؤون في إرضاء نفوسهم المريضة وإشباع نزواتهم المتعطشة للانتقام والبطش والترويع. لا أريد التوسع الآن في تحليل نفوس الطغاة ولا تتبع فصول تاريخهم الأسود، فلطالما دخل الطغاة التاريخ، ولكن عبر أبوابه الملطخة بدماء الأبرياء. ولعل القارئ المتابع جيدا للتاريخ يعي تماما أن الطغاة يصلون عادة لسدة الحكم من خلال شعارات جوفاء ووعود زائفة، ولو عدنا قليلا للوراء لأواخر القرن المنصرم، فسنجد أن القذافي بعد استيلائه على الحكم مباشرة بدأ بالتنديد بالحكم السابق، ممنيا الشعب الليبي بمستقبل أفضل وبحكم ديمقراطي ودولة قانون من الشعب وإلى الشعب، وأوهمه بتدشينه نظاما ديمقراطيا جديدا في الحكم أطلق عليه (الجماهيرية) مدعيا أن الشعب هو مصدر السلطات، وتمضي العقود الواحدة تلو الأخرى والشعب الليبي ينتظر ثمار الوعود الزائفة، حتى انهار نظام العقيد في ليبيا مخلفا دولة قبلية ممزقة، لا تزال تعاني حتى الآن من بقايا نظامها الفاسد الأرعن المتهور، حيث أصبحت دولة بلا دستور وبلا مرجعيات قانونية ينخر الفساد والطغيان في كافة جوانبها. فلم تكن جماهيرية العقيد أكثر من ضيعة خاصة للقذافي وأبنائه من بعده، حيث سخروا كافة مواردها الاقتصادية وأجهزتها الحكومية لخدمة أغراضهم الشخصية وأخضعوها لتنفيذ أجنداتهم الخاصة والمريبة في آن واحد، والتي طالما بذرت بذور الشقاق بين الدول بعضها البعض بل وبين أبناء الوطن الواحد. ولو تركنا الجماهيرية المنكوبة لنظام آخر ورث فيه الابن الشاب ضيعة أبيه! كما ورث معه أيضا طغيانه وبطشه وقمعه لأبناء وطنه، فسنجد نظام الأسد الابن الذي حذا حذو الأسد الأب، فقد ادعى كل منهما تمسكه بالديمقراطية والدولة المدنية، وسيادة دولة القانون واتباع نظام المساءلة وتطبيق الشفافية، حتى فوجئ العالم بأكمله به وهو يحيك القوانين على مقاسه الخاص ليصنع من سوريا نموذجا يتندر به العالم بأكمله، وسابقة تحلم كافة الأنظمة المستبدة في تكرارها، ولو على مصلحة الشعوب وكرامة الأوطان. لقد أذاقت جماهيرية القذافي وجمهورية الأسد شعوبهما صنوفا من العذاب وأنواعا شتى من الويلات، لم يشفع لتلك البلدان البائسة أن حكامها بدأوا حكمها شبابا واعدين بديمقراطية لم تطبق يوما، بل على العكس فقد عانى الكثير من مواطنيها من الاستبداد والقمع ورضخوا لأشكال شتى من التعذيب وإرهاب الدولة. لعل قراءة مثل هذا التاريخ والتروي فيه جيدا هو من الأهمية بمكان لأن يعي أجيال الشباب العربي الغض خطورة الاندفاع بتهور خلف تلك الألفاظ البراقة والشعارات الجوفاء عن الحرية والديمقراطية، فقد يكون العسل مسموما، وليس كل ما يلوح في ظهيرة الصحراء ماء.. ومن المؤكد أيضا أن ليس كل ما يلمع ذهبا. ** أكاديمي وكاتب صحفي www.a-e-house.org